تفاصيل العملية جونسون لاحباط مؤامرة المشير عامر ورفاقه (بدران وصلاح نصر وجلال هريدى)

تفاصيل العملية جونسون لاحباط مؤامرة المشير عامر

 ورفاقه (بدران وصلاح نصر وجلال هريدى) أغسطس 1967  


بقلم : سامي شرف
سنوات مع عبد الناصر (الحلقة الحادية عشرة)

الجزء الأول – البداية الأولى

* المشير عامر يرفض التنحي ويصرّ على البقاء قائداً للجيش

بعد انتهاء الرئيس جمال عبد الناصر من إلقاء خطاب التنحي اتصل بي المشير عبد الحكيم عامر في مكتبي وقال لي: يا سامي حابعث لك بيان للإذاعة باستقالتي وكمان شمس بدران، وطلب مني تبليغ ذلك للرئيس، وكلمت الرئيس وأبلغته بهذه الرسالة، وفي نفس الوقت اتصلت بمحمد فائق وزير الإعلام وطلبت منه التزام اليقظة توقعا لإرسال المشير عامر أو شمس بدران بيانا أو يذهبا بنفسيهما أو أحدهما لإذاعة بيان استقالتهما وقلت له إن تعليمات الرئيس تقضي بعدم السماح لأي شخص أيا كان بإذاعة بيانات لا بالتأييد ولا الاستقالة إلا بعد الاتصال بي شخصيا ورجوته ألا يترك مكتبه ويمنع دخول أي أشخاص لمبنى الإذاعة والتليفزيون وبالطبع فقد أثارت هذه التعليمات مشكلات كثيرة وكبيرة بين محمد فائق وبين العديد من المسؤولين وغيرهم.

وفي أعقاب استجابة الرئيس جمال عبد الناصر للضغوط الشعبية داخليا وخارجيا ووصول المزيد من الرسائل من كثير من زعماء ورؤساء العالم (يرجع للصحافة المحلية والعالمية في هذا الشأن)- وعودته عن الاستقالة يوم10 يونيو/ حزيران 1967 غادر المشير عبد الحكيم عامر مقر القيادة العامة في التاسع من يونيو ظهرا بعد أن كان قد قال للرئيس إنه لن يتوجه إلى مبنى القيادة العامة في اليوم التالي أي 11/6/1967 كما وعد الضباط الذين كانوا قد قابلوه في منزله وتوجه إلى شقة خاصة تخص اللواء طيار عصام الدين محمود خليل قائد المخابرات الجوية وكانت هذه الشقة تستخدم كمنزل أمين، وكان هدف المشير هو الإقامة فيها بصفة سرية إلا أن أمره انكشف قبل مرور أربعة وعشرين ساعة فقط لعدد لا بأس به من قادة وضباط القوات المسلحة، وبدأ البعض منهم يتصل به تليفونيا وفي مقدمتهم الفريق محمد صدقي محمود والفريق عبد العزيز مصطفى والفريق سليمان عزت واللواء عبد الرحمن فهمي واللواء عبد الحليم عبد العال، وكانت المكالمات كلها تدور في حدود المجاملات الشخصية وعرض الخدمات، وكانت ردود المشير عامر تحمل طابع جس النبض للتصرف على ضوء موقف كل منهم مع تجنب إظهار ذلك صراحة طبعا.

وفي مساء نفس اليوم العاشر من يونيو1967 اتصل شمس بدران تليفونيا بالرئيس عبد الناصر ورجاه أن يقابل بعض قادة القوات المسلحة، فرفض الرئيس هذا الاقتراح ونبه شمس بدران أنه لا شأن له بمثل هذه المسائل الآن وقال له: “يا شمس لن نعود لقصة عرائض 1882″.

وفي حوالي العاشرة من صباح يوم 11يونيو1967 حضر إلى مبنى السكرتارية الخاصة لرئيس الجمهورية بمنشية البكري، بعض القادة العسكريين وطلبوا مقابلة الرئيس وحددوا مطالبهم في بند واحد هو “عودة المشير عبد الحكيم عامر إلى قيادة القوات المسلحة” ورفض الرئيس مقابلتهم ثم كلفني في نفس الوقت بإعداد قرار رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة بإحالتهم إلى المعاش وهم: الألوية عبد الرحمن فهمي وعبد الحليم عبد العال وحمزة البسيوني.

وانتقل المشير عبدالحكيم عامر بعد ذلك إلى منزله في الجيزة، وكان المنزل يتكون من طابقين وبدروم ويطل على النيل في المنطقة بجوار فندق شيراتون القاهرة وفيه حديقة كبيرة ومحاط بسور عال، وكان يوجد بالبدروم مكاتب السكرتارية والحراسة الخاصة للمشير.

وفي هذا المنزل ازدادت الحركة حيث أخذ يتصل به الضباط من الذين عادوا حديثا من سيناء وبعض العناصر المدنية والعسكرية الأخرى، إلى جانب إخوته وأقاربه الذين قدموا من “إسطال” بلدة المشير في محافظة المنيا وقد حضر عدد منهم بناء على طلبه للإقامة معه في منزله بالجيزة.

ومع اتساع الحركة غير العادية في منزل المشير عبد الحكيم عامر بالجيزة، كلف الرئيس عبد الناصر صلاح نصر بالاتصال بالمشير وإبلاغه بأن هذا الوضع لا يليق بعبد الحكيم وغير مقبول، وأنه يجب إنهاؤه.. لكن المشير عامر رد عليه بأنه سوف يغادر منزله إلى بلدته إسطال في محافظة المنيا في صعيد مصر، وفعلا سافر إليها.. وأخذ يلتقي بأفراد عائلته وأبناء البلدة ويردد في جلساته معهم.. أنه لن يرضى إلا بالعودة لقيادة الجيش.. وأنه لن يقبل أن يكون “طرطورا”.. أو تشريفاتي كصلاح الشاهد!..

وقد لحق به في إسطال كلا من عباس رضوان وشمس بدران وصلاح نصر محاولين التعرف الى نواياه وتلمس السبل الملائمة لتسوية الأزمة بينه وبين الرئيس عبد الناصر، كما توجه إلى هناك أيضا محمد حسنين هيكل بناء على طلب المشير عامر وبموافقة الرئيس، وكان موقف الرئيس مرتكزا على إمكانية تسوية الأزمة على أساس واحد لا مناقشة فيه هو أن يترك المشير عبدالحكيم عامر قيادة القوات المسلحة ويصبح نائبا لرئيس الجمهورية وهو الاقتراح الذي كان المشير عامر يرفضه بشدة ويردد أمام كل من اجتمع به، شمس بدران وصلاح نصر ومحمد حسنين هيكل وحسين عبد الناصر ومحمد أيوب:

“أن الرئيس قد خلى به.. وهو لا يريد أن يكون في موقف المتفرج على الأحداث ولا حل إلا بالعودة إلى قيادة القوات المسلحة وليس لأي موقع آخر، وأنه لن يقبل المساس بأي ضابط مهما كانت الأسباب: لا معاش.. ولا استيداع.. ولا اعتقالات.. لا إجراء من أي نوع كان وتحت أي مسمى..

وكان يكرر دائما عبارة: “أنا ما اشتغلشي تشريفاتي زي صلاح الشاهد.. ولا أقبل أن أقوم باستقبال القادمين من الخارج وأودع المسافرين والمغادرين للبلد وأنا واقف مكتوف اليدين لا أستطيع أن أدافع عن رجالي”.

وقد نقل كل هؤلاء اقتراحا للرئيس عبد الناصر بأن يتوجه المشير لفترة من الوقت إلى يوغسلافيا، يمكن بعدها أن تهدأ النفوس.

وفي 14 يونيو 1967 عاد شمس بدران إلى القاهرة قادما من إسطال وصرح لعبد المجيد شديد.. أنه مراقب.. وأنه يوجد من يحوم حول منزله باستمرار، وأنه لا يقوم بأي نشاط ضار”،ثم أضاف قائلا بالنص: “أنا لو عاوز أعمل انقلاب أعمله وأنا قاعد في بيتي”!

وكان شمس بدران يعلم تماما أن عبد المجيد شديد سوف يبلغ هذا الحديث نظرا للعلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بالرئيس عبدالناصر ولمعرفة شمس بدران أن عبدالمجيد شديد يقدس الشرعية.

أما المشير عامر فقد عاد من إسطال في أول يوليو/ تموز 1967 بعد لقائه بمحمد حسنين هيكل الذي تمكن من إقناعه بأن بقاءه في إسطال يعني رضاؤه بالنفي الاختياري بعيدا عن القاهرة، واستقر المشير في منزله بالجيزة، لكنه واصل نفس نشاطه السابق، وكانت نية الرئيس قد استقرت دون تراجع على تنحية عبدالحكيم عامر ومعه شمس بدران، وإن واصل محاولات احتواء الأزمة ومنع تفاقمها.

وبدأ في نفس اليوم تنفيذ حملة اعتقالات وتطهير شملت عددا من قادة القوات المسلحة وبعض الضباط من دفعة، 1948 دفعة شمس بدران، الذين كانوا يشكلون تنظيما خاصا كان يتولاه شمس بدران بشكل سري، لم يعلم به القائد الأعلى للقوات المسلحة وكانت قد ضبطت نوتة في مكتب شمس بدران في مبنى القيادة العامة بكوبري القبة تحوي أسماء هذا التنظيم وسلمها الفريق محمد فوزي للرئيس عبد الناصر، وبناء على ذلك اتخذت إجراءات التحفظ، وأودع الضباط في إحدى الفيلات في منطقة المعادي، إضافة إلى عدد من أعضاء مجلس الأمة عن محافظة المنيا بعد إسقاط المجلس لعضويتهم عنه.

لكن النشاط المسلح والمشبوه أخذ يتزايد في منزل عامر، وجرى توزيع السلاح على الأفراد الموجودين في المنزل وفي نفس الوقت واصل كل من عباس رضوان وصلاح نصر وكمال رفعت ومحمد حسنين هيكل وعبد المحسن أبو النور بشكل انفرادي وكذلك شعراوي جمعة وحلمي السعيد وسامي شرف بذل المساعي لاحتواء الأزمة وتهدئة الأوضاع وقد ذهبنا نحن الثلاثة حلمي وشعراوي وأنا سويا، في محاولات للتقريب بين وجهات النظر واحتواء الخلاف في إطار عودة المشير ليكون نائبا لرئيس الجمهورية فقط، دون أن يكون له أدنى علاقة بالقوات المسلحة وكان رد المشير باستمرار هو الرفض ومكررا العبارات التي ذكرها من قبل تعليقا على هذا الاقتراح.

كان جوهر القضية هو أن المشير ينظر إلى الجيش على أنه إقطاعية تابعة له ولا يريد التنازل عنها تحت أية ظروف، ويرى أيضا في استرداده سلطاته في الجيش بمثابة رد اعتبار له في ضوء مسؤوليته الكبرى عن وقوع الهزيمة العسكرية في نفس الوقت الذي كان يسعى فيه الرئيس عبدالناصر إلى إعادة بناء قوات مسلحة جديدة محترفة ووفقا لمعايير تختلف تماما عما كان سائدا قبل النكسة والعمل على إبعادها عن الصراعات السياسية وتفرغها الكامل للمعركة القادمة من أجل استرداد الأرض المحتلة.

وحاول شمس بدران مرة أخرى التقدم بحلول وسط، لكن جمال عبد الناصر أصر على عدم عودة المشير عامر إلى القوات المسلحة مرة أخرى.

وخلال شهر يوليو1967 أقدم المشير عبد الحكيم عامر على بعض التصرفات التي زادت الأزمة اشتعالا وتمثلت في الآتي:

1- توزيع نص استقالة زعم أن المشير عامر قدمها للرئيس عبد الناصر بعد النكسة لكن اتضح أنها نفس الاستقالة التي سبق أن تقدم بها عقب أزمة مجلس الرئاسة سنة، 1962 وأن شقيقة السيدة نفيسة عبد الحميد حواس والشهيرة ببرلنتي عبد الحميد، زوجة المشير عامر- بعقد عرفي- وتدعى السيدة زهرة هي التي قامت بإعادة طبع هذه الاستقالة في إحدى قرى مركز دكرنس بمحافظة الدقهلية وقامت بتوزيعها هي وزوجها وقام جهاز المباحث العامة بضبطهما مع الآلة الكاتبة والمطبعة وشارك في توزيع الاستقالة بعض الضباط وبعض أعضاء مجلس الأمة أيضا بينهم النائب عبد الصمد محمد عبد الصمد وآخرين من محافظة المنيا بهدف خلق رأي عام مؤيد للمشير عامر.

2-اتصال المشير عامر بالسفير السوفييتي في القاهرة تليفونيا بعد الثامن من يونيو1967ودار الحديث حول اتهام الإتحاد السوفييتي بالاشتراك في مؤامرة دولية ضد مصر تسببت في وقوع الهزيمة العسكرية وتبين أن المشيركان يعتزم إرسال خطاب للسفير بهذا المعنى إلا أن صلاح نصر أقنعه بالامتناع عن هذه الخطوة.

ومع استمرار النشاط في منزل المشير تم وضع خطة لمراقبة تحركاته بكل ما تحمله هذه المهمة من حساسية، أولا لأن المستهدف بالمراقبة هو المشير،وثانيا بأن ثمة تهديداً بإمكانية تورط أفراد من القوات المسلحة بما قد يعكسه ذلك من تأثيرات سلبية على معنوياتها في هذه المرحلة الدقيقة، وقد تم التنسيق بين كل الأجهزة المعنية لتنفيذ المهمة على النحو التالي:

1- تقوم المخابرات العامة بمراقبة المنافذ القريبة من منزل المشير عامر الذي كان يرتبط بعلاقات قوية مع صلاح نصر، ولكن هذه الرقابة تم كشفها أو سربت أخبارها وهو الاحتمال الأرجح فتم إيقافها على أثر حديث تليفوني طويل بين المشير وصلاح نصر، والحقيقة أننا كنا نريد أن نكشف عن يقين عن مدى الارتباط بين الرجلين حتى في مجال مسألة خطيرة كهذه.

2-تقوم المباحث العامة بمراقبة دائرة أوسع حول منزل المشير وحددت هذه الدائرة من جامعة القاهرة حتى فندق شيراتون القاهرة والشوارع المؤدية إليها ولا داعي لتفاصيل مثل هذه العمليات لطابعها الفني الذي لا يهم القارىء.

3- تتولى المخابرات الحربية مراقبة منافذ القاهرة وجميع الطرق التي تسلكها عادة تحركات القوات المسلحة.

ومن جانبنا كانت تعقد في مكتبي اجتماعات مستمرة يوميا وفي بعض الأحيان مرتين في اليوم لتقييم الموقف كان يحضرها كل من أمين هويدي وشعراوي جمعة والفريق محمد فوزي واللواء محمد الليثي ناصف واللواء محمد أحمد صادق مدير المخابرات الحربية واللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة والعميد إبراهيم سلامة من المخابرات الحربية.

ولم تسفر المتابعة عن أكثر من تردد بعض أفراد من القوات المسلحة المعروفين بولائهم للمشير عامر على منزله بالجيزة إضافة إلى بعض أقارب المشير الذين قدموا من المنيا وبعضهم كانوا أعضاء في مجلس الأمة إلى ان جاء يوم 24 يونيو1967حيث تتابعت الأحداث بصورة متلاحقة وفي توقيت متقارب بشكل غريب وتداعت على النحو التالي:

1- حوالي الساعة العاشرة والنصف مساء يوم 24يونيو اتصل بي تليفونيا علي صبري نائب رئيس الجمهورية واستفسر مني عن مكان الرئيس فأبلغته بأنه موجود بالدور العلوي بالمنزل فقال: “إذا كان سيادة الرئيس موش محتاجك دلوقت هات عربيتك وتعال في البيت حالا لأن هناك موضوع على جانب كبير من الأهمية والخطورة لازم تيجي تسمعه لتنقله للرئيس فورا”.

2-وقبل ان أغادر مكتبي للتوجه لمنزل على صبري، دخل سكرتيري مندفعا وقال لي يا افندم العميد اركان حرب عمر أحمد خطاب قائد مجموعة الملحقين العسكريين في المخابرات الحربية موجود ويريد مقابلتك فورا في أمر خطير وعاجل فاستقبلته واقفا وطلبت منه أن يذكر عنوان الموضوع بسرعة نظرا لاضطراري الى الخروج في أمر عاجل، فقال انه لديه معلومات ببوادر مؤامرة يخطط لها عبد الحكيم عامر، فطلبت منه أن يبقى في مكتبي ولا يتحدث مع مخلوق لحين عودتي وإنني لن أتأخر كثيرا.

3- نزلت وركبت السيارة وقبل أن أدير المحرك أطل عليّ السكرتير ونادى بصوت عال لأنتظر وقفز من شباك مكتبه بالدور الأرضي وجرى إلى حيث أقف قائلا: يا افندم العقيد أركان حرب عبدالعاطي أبو سيف من الدفاع الجوي اتصل الآن تليفونيا من الشارع ويريد لقاءك بعد منتصف الليلة في أمر ضروري جدا وقال إنه سينتظرك في نهاية شارع بيروت من ناحية الميريلاند بمصر الجديدة… أقول له إيه؟

(وكان هذا الضابط من تلاميذي في الكلية الحربية ولم ألتق به منذ أن كان يدرس في مدرسة المدفعية سنة1950 إلا أني كنت أتابع تقدمه العلمي والعسكري لأنه كان من الضباط النوابغ والمبدعين في الدفاع الجوي وكان مثالا للضبط والربط والأخلاق العالية).

فطلبت من السكرتير إبلاغه بأني سأكون في المكان الذي حدده في منتصف الليل بالضبط قائدا سيارة فيات 1100 زرقاء اللون.

وانطلقت مسرعا إلى منزل علي صبري وكان في شارع العروبة في ذلك الوقت ووجدت اللواء طيار كمال حمادة مدير التدريب في القوات الجوية في ذلك الوقت وهوزوج شقيقة علي صبري أيضا، وجدته منتظرني على الباب، ودخلنا على عجل إلى الصالون لأجد علي صبري يستجوب أحد الشباب الذي يرتدي قميصاً أبيض وبنطلوناً رمادياً وعرفني به على أنه الملازم أول طيار محمد حمادة وطلب إليه أن يعيد ما قاله من قبل أمامي فقال: “إنه بدأت منذ أمس حركة نشطة في الطيران لصالح المشير عبد الحكيم عامر بقيادة الملازم أول طيار م. ح. والنقيب طيار ع.ص. والنقيب طيار ت. ز. وكانت بالأمس مجرد محاولات لجس النبض وخلق رأي عام إلا أنها تطورت إلى خلق شكل تنظيمي مع بعض الضباط فقررت أن أسايرهم وأظهرت استعدادي لمشاركتهم في التحرك بطائرتي إذا ماكلفت بذلك.. وأضاف أنه سارع بإخطار اللواء كمال حمادة لصلة القرابة بينهما وأبدى استعداده لتنفيذ ما نراه لتأمين البلاد والمحافظة على سلامتها من منطلق وطني حيث أنه مؤمن أن البلد لا تتحمل أي عمل صبياني – هكذا قال هو أو أي عمل غير مسؤول وخارج على الشرعية.

واتفقنا على أن يقوم بمسايرتهم ووضعنا له أسلوباً مؤمناً للاتصال والتبليغ بأي تطورات جديدة.

وعدت إلى مكتبي حيث أبلغت أن الرئيس طلبني وأمر أن أتصل به فور عودتي، وحاولت الاتصال لكنه لم يرد ففهمت أنه في صالة السينما، وطلبته هناك واستأذنته في أن ألقاه فورا وتمت هذه المكالمة بحضور العميد عمر خطاب الذي طلبت منه البقاء في مكتبي للمرة الثانية إلى أن أعود إليه.

التقيت الرئيس أمام صالة السينما والتفت إليّ مبتسما ونحن في طريقنا إلى مكتبه وقال:

“ازيّك يا استاذ؟!.. انت عامل زي النحلة اليومين دول… بس إوعى تدوخ وتقع مني.. أخبارك إيه؟وكنت فين؟

فقلت: “والله يا افندم الأخبار موش ولابد”.

قال: “ليه؟ هما اليهود هجموا على القاهرة؟”

فقلت: “والله سيادتك قلبك حاسس باللي بيحصل.. ده اليهود فعلا ناويين يهجموا على القاهرة”.

فاندهش الرئيس ونظر إليّ بعينيه اللامعتين النافذتين قائلا: “دول لو هجموا على القاهرة حايغرزوا في الوحل وحايتحملوا خسائر لا قبل لهم بها وهما موش من الغباء بحيث يقدموا على مثل هذه الخطوة المجنونة”. فقلت له: “بس في رأيي إنهم أغبياء لأنهم بدأوا فعلا من داخل القاهرة.. إن يهود مصر بدأوا يتحركوا من الداخل يا افندم.

قال: “إزاي بقى يا أستاذ”؟.

قلت: “عندي في خلال ساعة واحدة ثلاثة بلاغات على جانب كبير من الأهمية والخطورة، وهي ليست تحريات أو تخمينات أو استنتاجات أو تقارير من الأجهزة الأمنية بل بلاغات حية وشخصية من ضباط عاملين ومن أفرع مختلفة من القوات المسلحة وكلها تقود إلى نتيجة واحدة وهي وجود مؤامرة يدبرها المشير عبد الحكيم عامر ومن حوله”.

نظر الرئيس إليّ نظرة حادة فاحصة وقال بهدوء وبصوت خافت نسبيا: “إنت متأكد من اللي بتقوله يا سامي إنت عارف إنه في مثل هذه الظروف التي نمر بها من نكسة عسكرية أحدثت صدمة في أوساط الشعب إلى تنحي ثم استمرار في تحمل المسؤولية.. إلى العلاقات المعروفة بين عبدالحكيم ورجاله في القوات المسلحة،وسيطرة النزعة العاطفية على أي مبدأ آخر، كل ده قد يدفع البعض إلى تخيل أشياء وأوهام لا أساس لها من الصحة… وإنت عارف إن هناك عهد ودستور غير مكتوب بيننا في مجلس الثورة أن من يترك الساحة لأي سبب لا يتآمر أو ينقلب على المسيرة، الحقيقة أنا لا أتخيل مثل هذا، وخصوصا من حكيم!!

فقلت للرئيس: “يا افندم البلاغات اللي عندي هي:

1- بلاغ من العميد أ. ح. عمر أحمد خطاب من المدرعات وقائد مجموعة الملحقين العسكريين في المخابرات الحربية وذكرت ملخص البلاغ.

2-بلاغ الملازم أول طيار محمد حمادة من القوات الجوية وأعدت على الرئيس ما سمعته من هذا الضابط بحضور علي صبري وكمال حمادة.

3- المكالمة التليفونية من عبد العاطي أبو سيف من الدفاع الجوي والذي سأقابله في منتصف الليلة.

ورجوت الرئيس أن يسمح لي بلقاء آخر بعد مقابلة ابو سيف، ووافق الرئيس وقال لي اتصل بي فور عودتك من مقابلته لنقّيم المعلومات والبلاغات ونضعها في قالبها الصحيح.

خرجت من مقابلة الرئيس لألتقي بالعميد عمر خطاب الذي بادرني بالتعبير عن خشيته من انكشاف أمره فطمأنته بأن لدينا نظاماً وأسلوب تأمين دقيق للمنطقة المحيطة كلها ولو كان هناك أدنى شك حول وجودك هنا لكانت الصورة اتضحت من وقت وصولك وحتى الآن، وبدأ عمر خطاب بلاغه قائلا:

“إن أحد الجنود من رجاله المخلصين منذ أن كان يخدم في سلاح الحدود- وهو جندي نوبي وهو يعمل في منزل المشير عامر في الجيزة أبلغه اليوم من منطلق حرصه على بلده أنه منذ ثلاثة ايام بدأت حركة غير عادية في مقر إقامة المشير تمثلت في الآتي:

1- إقامة تحصينات أمنية داخل المنزل والحديقة.

2- تجهيز غرفة في الحديقة ذات مدخلين كل منهما يؤدي إلى شارع مختلف وبحيث يكون المشتل المجاور للمنزل ساترا للداخل أو الخارج منه.

3- وصلت للمنزل أسلحة صغيرة رشاشات خفيفة وبنادق وطبنجات وصناديق قنابل يدوية.

4- بدء تردد أفراد بملابس مدنية من بينهم شخصيات معروفة بسابق ترددها الى المنزل إلى جانب وجوه جديدة يبدو من سلوكياتها أنهم عسكريون، وأن هذه الزيارات تتم في مواعيد غير عادية غالبا بعد الساعة الحادية عشرة أو عند منتصف الليل ويحرص كل من يحضر دون استثناء – على محاولة التخفي أثناء دخولهم، وعندما يدخلون للغرفة يكون المشير شخصيا في انتظارهم أو ينزل من البيت في نفس موعد وصول كل منهم وفي الغالب لا تستغرق المقابلة أكثر من نصف الساعة والحديث يدور همسا، أو يتم تبادل أوراق مع بعضهم.

والأمر الذي لفت نظر المبلّغ وأثار شكوكه أن العقيد علي شفيق صفوت السكرتير العسكري للمشير عامر والمسؤول عن ترتيب المقابلات لم يكن ظاهرا في الصورة وغير موجود بل إن الذي تولى ترتيب المقابلات أشخاص آخرون، وأضاف أنه شاهد عباس رضوان نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الأسبق يرتب بعض هذه المقابلات بل ويصطحب بنفسه بعض هؤلاء الشباب ويشارك في المقابلة بينهم وبين المشير عامر.

وبعد قليل ومع تباشير الصباح المبكر اتصل بي تليفونيا محمود حسين عبد الناصر مدير مكتب كمال الدين رفعت في ذلك الوقت وأبلغني أن زوجة احد ضباط الدفاع الجوي اتصلت بكمال الدين رفعت وناشدته أن يتدخل ليحول دون أن يتورط زوجها في تحرك عسكري ضد الشرعية كما أبلغني أن كمال رفعت يريد أن يسمح وقت الرئيس عبد الناصر بلقائه صباح اليوم لأمر مهم.

أبلغت الرئيس بهذه الرسالة وقابله فعلا ولم تخرج المقابلة وما دار فيها عن هذا البلاغ.

ومن ثم أصبح لدينا البلاغات التالية في ساعات محدودة قليلة:

1- بلاغ الملازم أول طيار محمد حمادة.

2- بلاغ العميد عمر خطاب من المخابرات الحربية وهو من سلاح المدرعات.

3- بلاغ العقيد عبد العاطي أبو سيف من الدفاع الجوي.

4- بلاغ النقيب عبد الستار من السكرتارية الخاصة للمشير عامر.

5- بلاغ السيد كمال الدين رفعت.

وعلى ضوء هذا الموقف طلب الرئيس مزيدا من تجميع المعلومات وبحث موقف كل من:

1- شمس بدران.

2-عباس رضوان.

3- المخابرات العامة.

4- العقيد علي شفيق صفوت.

وفي 28 يوليو/ تموز 1967 وردت معلومات تفيد بأن جلال هريدي (أقوال شمس بدران وجلال هريدي وأحمد عبد الله وآخرين ممن حوكموا أمام محكمة الثورة برئاسة السيد حسين الشافعي سنة 1968) اقترح عقب سحب سرية الحراسة من منزل الجيزة وضع خطة لاختطاف الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن يدعوه المشير عامر لزيارته في الجيزة ثم تجرى محاكمته أي الرئيس أمام كل من المشير وشمس بدران وجلال هريدي.

وفي نفس الوقت اقترح شمس بدران أن يختفي شخصان مسلحان في حقيبة سيارة المشير عند زيارته للرئيس في منشية البكري ثم يقوم هذان الشخصان باختطاف الرئيس ويتوجهان به إلى منزل المشير بالجيزة.

واستمرت تداولات هذه المجموعة وتحركاتها حتى يوم 24أغسطس1967 حيث تم الاتفاق على وضع خطة التحرك والاستيلاء على السلطة قام المشير عبدالحكيم عامر بإملائها بنفسه وكتب وعدل فيها بخط يده من غرفة نومه وأمكن الحصول على هذه الورقة وهي من بلوك نوت مسطر ومكتوب بعضها بقلم حبر جاف أزرق والبعض الآخر بقلم حبر جاف أحمر وهي التعديلات التي كانت بخط يد المشير شخصيا.

(هذه الورقة كانت محفوظة في أرشيف السري للغاية في سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري).

وكانت الخطة تتضمن مرحلتين:

الأولى يتم تنفيذها في الساعات الأولى من صباح 27 أغسطس 1967 بقيام وحدات من الصاعقة بالاستيلاء على مقر القيادة الشرقية في القصاصين مع تأمين طريق القاهرة/ الإسماعيلية والقاعدة الجوية في إنشاص وكانت تنص على ما يلي:

“يؤمن المقدم أحمد عبد الله من الصاعقة القوات اللازمة لتأمين وصول المشير إلى إنشاص مقر قيادة الصاعقة”، ثم يتحرك المشير إلى قيادة المنطقة الشرقية بالإسماعيلية تحت حماية الصاعقة وبعض ضباط القيادة الشرقية الذين تم الاتفاق معهم على تأييد مطالب المشير، ومن هناك في الإسماعيلية يوجه المشير عامر نداء إلى الرئيس جمال عبد الناصر بمطالبه التي تشمل إعادة الضباط المفصولين والمحالين إلى المعاش أو الاستيداع والمعتقلين إلى وظائفهم السابقة”.

وكان التقدير بالطبع أن الرئيس لن يقبل الاستجابة لهذه المطالب ومن ثم تبدأ خطوات المرحلة التالية.

المرحلة الثانية وتشمل:

1-تأمين منطقة القاهرة بقيام شمس بدران بالسيطرة على اللواء المدرع المتمركز شرق القاهرة، وسيطرة عثمان نصار على الفرقة المدرعة في دهشور ويعاونه في ذلك شمس بدران أيضا.

2-الاستيلاء على التلفزيون والإذاعة: المبنى ومحطات الإرسال في أبو زعبل والمقطم.

3- شملت الخطة أيضا واجبات أخرى لجهاز المخابرات العامة، تحت قيادة صلاح نصر تقضي بتجهيز أطقم اعتقالات لبعض القيادات والمسؤولين تحت إشراف وتوجيه عباس رضوان وكان الرئيس جمال عبد الناصر على رأس هذه القائمة ووردت أسماء كل من زكريا محيي الدين علي صبري شعراوي. جمعة أمين هويدي سامي شرف (ورد بجوار اسمي عبارة “منشية البكري”) الليثي ناصف، ثم عبارة” والأسماء التي أمليت لعباس”.

4- إعلان انتقال السلطة وتنصيب عبد الحكيم عامر، مع تشكيل مجلس للقيادة يضم كلا من عبد الحكيم عامر، وعباس رضوان، وشمس بدران، وصلاح نصر، وآخرين، إلى جانب قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة الفريق طيار محمد صدقي محمود والفريق بحري سليمان عزت والفريق عبدالمحسن مرتجي.

5- يتولى عباس رضوان مهمة تأمين السيطرة على مدينة القاهرة والإشراف على اعتقال كبار المسؤولين والشخصيات المؤثرة بالتنسيق مع كل من الشرطة العسكرية والمباحث الجنائية العسكرية والمخابرات الحربية والمخابرات العامة حيث تعهد صلاح نصر بتوفير الأطقم التي تساعد على إنجاح هذه العملية.

أ. سامي شرف

تاريخ الماده:- 2004-08-

سنوات مع عبد الناصر (الحلقة الثانية عشرة) *تفاصيل “العملية جونسون” لإحباط “مؤامرة المشير


الجزء الأول – البداية الأولى

حاول جمال عبد الناصر بطرق مباشرة وغير مباشرة بواسطة صلاح نصر وعباس رضوان ومحمد حسنين هيكل وعبد المحسن أبو النور وشعراوي جمعة وشمس بدران وسامي شرف وحلمي السعيد وآخرين أن يلفت نظر المشير عامر إلى خطورة ما يقوم به وكان في هذه الاتصالات يركز على نقطتين أساسيتين:

*الأولى هي الميثاق غير المكتوب بين أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن من يترك المسيرة لا يقوم بأعمال أو نشاط من شأنه النيل من الثورة ومبادئها وقيمها ولا ينقلب عليها بتآمر أو غيره من الأعمال غير الشرعية أو غير الأخلاقية.

*والثانية هي أن مثل هذه الأعمال غير المسؤولة وخارج نطاق الشرعية، هي دعوة إلى العصيان ويكفي ما حدث في يوم 5 يونيو (حزيران) وأن التمادي في هذه الأمور سيورط آخرين في أعمال أقل ما توصف به أنها غير شرعية.

ولكن المشير عامر أدار ظهره لكل هذه الاتصالات والمحاولات الناصحة وبدأ بممارسة سلسلة من الأعمال التي أخذت شكل تحد صريح للسلطة بأن قام بعض المحيطين به وبموافقته وبعلمه بإعلان نوع من العصيان حيث تجمع عدد من الضباط وقاموا بمظاهرة في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة وتصدى لها الفريق أول محمد فوزي وأمرهم بالانصراف وإلا قام بتشكيل مجلس عسكري عال ميداني في الوقت والساعة لمحاكمتهم (هذا المجلس يعنى في قانون الاحكام العسكرية أن يشكل فورا في نفس المكان ويحاكمهم ويصدر الحكم لينفذ، هكذا القانون العسكري).

ثم قام في نفس الوقت بعض ضباط حراسة المشير عامر بمظاهرة عسكرية بالعربات المدرعة وكان على رأسها النقيب أحمد أبو نار وغادروا منزل المشير بمنطقة الحلمية واتجهوا إلى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في مدينة نصر مارين بمنطقة منشية البكري حيث توقفوا بجوار منزل عبد الناصر مرددين هتافات تنادي بعودة المشير عامر للقيادة، وقد تصدى لهم الفريق محمد فوزي والشرطة العسكرية وتم إعادة الأمور إلى نصابها الإنضباطي.

وبدأت بعد ذلك عملية استدعاء بعض ضباط الصاعقة للقاءات تتم في منزل المشير بالجيزة كان المسؤول عنها كل من جلال هريدي وأحمد عبدالله وحسين مختار.

ثم تم استئجار فيلا وشقة في الدقي، (أحد أحياء الجيزة)، كانت تتم فيهما لقاءات بين عباس رضوان وبعض الضباط خصوصا من الرتب الكبيرة مثل اللواء سعد عثمان على سبيل المثال، وكان الضابط الذي يتم تجنيده يحدد له موعد ليلا لمقابلة المشير عامر في المشتل المجاور لمنزله في الجيزة وذلك لتأكيد الدور الذي سيقوم به من التكليفات. وكانت التكليفات تتفاوت من ضابط لآخر فمنهم من كان يكلف بنشر شائعات معينة أو توزيع الاستقالة أو الترتيب للمشاركة الإيجابية في التحركات المستقبلية، كما كان المشير ومن كان يعاونونه يطلبون تقارير رأي عام من داخل القوات المسلحة علاوة على أوضاع الوحدات العسكرية.

وبالتبليغات السابقة وبالمزيد من المعلومات التي بدأت تصل تباعا وبكثافة علاوة على أن عملية الاختراق داخل منزل المشير عامر كانت تحقق نجاحا مضطردا يوما بعد يوم أصبح لدينا صورة حقيقية واقعية من داخل المنزل من اتصالات ومقابلات وأسماء وترتيبات ونوايا، والأهم أنه أمكن الحصول على أوراق وخرائط منها أوراق بخط يد المشير شخصيا والتي كانت تحمل تعليمات محددة إما من المشير أو من آخرين من الذين كانوا يقيمون معه. ولقد تم عرض كل هذه الأوراق والوثائق على عبدالناصر فور استلامها، وكانت البلاغات الشفوية الأخرى يكتب بها تقارير بخط يدي أو بخط يد مقدم المعلومة أو نتيجة المراقبة، وكل هذه التقارير محفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات (أرشيف سري للغاية بالدور الثاني من مكتبي بمنشية البكري والذي كان مسؤولا عنه توفيق عبدالعزيز أحمد و محمود نصر).

وتبلورت كل هذه الأنشطة في نتيجة واحدة هي أن المشير عامر ورجاله يقومون بالإعداد لمؤامرة لقلب نظام الحكم يتم تنفيذها يوم 27أغسطس (آب) 1967.

وهنا فقط اقتنع الرئيس جمال عبد الناصر بأن هناك تآمراً وأفعالاً وليست نوايا أو إرهاصات.. أفعال هدفها الاستيلاء على السلطة وكانت الأوامر التي أصدرها الرئيس لإيقاف هذه العملية وإفشالها وأن تتولى الشرعية مسؤولياتها وتمارس حقها المشروع في مواجهة هذه الأمور غير المحسوب نتائجها وكلفني الرئيس جمال عبد الناصر بتشكيل مجموعة عمل ثلاثية من شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لوضع خطة لمواجهة وإفشال هذه المؤامرة.

وكانت العملية في غاية الصعوبة سواء بحكم طبيعة الشخصيات والأهداف التي تقرر متابعتها أو في ضوء بعد أجهزة الدولة بما فيها مؤسسة الرئاسة عن القوات المسلحة، ومن ثم ظهرت مشكلة كبيرة حول تحديد الأجهزة التي تتولى البحث والأفراد الذين سوف يكلفون بالمهمات وأساليب التنسيق والمواصلات وغير ذلك من تفصيلات فنية معقدة كثيرة، وبعد لقاء مع الرئيس تقرر أن تشكل مجموعة عمل للمشاركة في البحث وتجميع المعلومات والتنسيق والمتابعة والتقييم وتحديد الأهداف والواجبات مع تأمين كل هذه العملية على الأقل في مراحلها الأولى.

وبناء على ذلك فقد إسأذنت الرئيس عبد الناصر في أن تشكل مجموعة العمل من كل من شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين هويدي وزير الدولة والفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة واللواء محمد احمد صادق مدير المخابرات الحربية واللواء محمد الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري واللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة، وكان التلقين على الوجه التالي:

هناك تطورات في الموقف الداخلي تقتضي اليقظة التامة وبحث موقف القادة والضباط ومدى العلاقات مع العناصر موضع الشك مع الاستعداد للقيام بأي مهمة قد تكلف بها أي من هذه الجهات في أي لحظة على مدار الأربع والعشرين ساعة اعتبارا من ساعة هذا اللقاء على أن تكون التصرفات والتحركات من جانبنا بأسلوب هادىء ويجب ألا نلفت الأنظار لأي نشاط من جانبنا قد ينبه أطرافاً أخرى، كما طلب التبليغ – كل من ضباطه- عن أي اتصالات تجرى معهم مهما كانت بسيطة والتأكد من أن الأوامر التي تصدر إليهم تكون من الجهة المسؤولة والشرعية فقط.

كما أمر الرئيس جمال عبد الناصر بتشكيل لجنة ثلاثية تضم كلا من شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لتجميع وتقييم المعلومات وللتنسيق مع مجموعة العمل السابق الإشارة إليها، وعرض التوصيات وتكون مسؤولة عن المتابعة، وكنا في حالة إجتماع شبه دائم حيث اللقاءات تعقد بيننا باستمرار صباحا ومساء وفي اوقات متقاربة أثناء اليوم وفي خلال أيام قليلة كانت أبعاد الموقف قد تبلورت على النحو التالي:

1- وجود حراسة خاصة كاملة التسليح في منزل المشير عامر بالجيزة.

2- وجود ميليشيات من أبناء قرية اسطال مسقط رأس المشير عامر تقيم في المنزل بالجيزة وكل أفرادها مسلحون.

3- اختفاء العقيد علي شفيق صفوت (السكرتير العسكري للمشير عامر) وتواجده مع عائلته بالإسكندرية.

4- تواجد شمس بدران وعباس رضوان بصفة شبه دائمة في منزل المشير عامر بالجيزة.

أحب أن أقرر هنا.. والآن أن جمال عبد الناصر لم يكن من الأشخاص الذين يفقدون ثقتهم بسهولة في الآخرين إلى أن تثبت إدانتهم بالأدلة القاطعة التي لا تحتمل الشك أو الغموض لدرجة أنه لم يكن يصدق أن هناك تآمراً على النظام يقوده المشير عبد الحكيم عامر ومن معه من الذين كانوا في الخلايا الرئيسية للضباط الأحرار ومن خلية الرئيس نفسه، وظل على هذا الاعتقاد إلى أن وضعت أمامه أمر العمليات بخط يد المشير عبد الحكيم عامر والذي حدد فيه يوم وساعة التحرك وأسماء المشتركين ومسؤولية كل منهم وواجبات العناصر الرئيسية والأهداف التي يتم السيطرة عليها… الخ هنا فقط بدا الاقتناع على الرئيس وقرر اتخاذ الإجراءات الواجبة لمجابهة عملية إنقلابية تستخدم فيها القوات المسلحة ضد الشرعية.

ومرة ثانية وللتدليل على قولي هذا فإنه بعد أن تم اعتقال عباس رضوان قبل سفر عبد الناصر إلى الخرطوم تحدث الرئيس مع شعراوي جمعة بحضوري وقال له: “يا شعراوي عايزك تروح النهاردة للمعتقل بالقلعة وتقابل عباس رضوان وتعرف منه شخصياً دوره إيه بالضبط وما حقيقة موقفه ومدى تورطه” – وكانت تربط الإثنين شعراوي وعباس زمالة وصداقة متينة وقوية جدا، وكان تقدير الرئيس أن عباس رضوان لا يمكن أن يشترك في مؤامرة بهذا الشكل خصوصا أنه كان على علاقة خاصة جدا مع الرئيس عبد الناصر كما أن الأخير كان يعتبره أخاً وإبناً يمتاز بدرجة عالية من المبادىء والأخلاق والتمسك بالشرعية، إلا أن شعراوي جمعة عاد بعد جلسة مع عباس رضوان امتدت أكثر من ست ساعات ليؤكد أنه متورط في المؤامرة بإعتراف ضمني يكاد يكون صريحا من عباس رضوان شخصيا.(هذا اللقاء مسجل في معتقل القلعة وتفريغ التسجيل محفوظ في أرشيف إدارة المباحث العامة وأرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري).

عند هذا الحد من الحكاية أرجو أن يسمح لي القارىء بأن نرسم سوياً صورة بانورامية مجمعة للموقف عقب النكسة والهزيمة العسكرية من وجهة نظر ما أسمّيه بأزمة أو مأساة الرجل الثاني.

فعبد الحكيم عامر لم يقبل أن يتخلى عن مناصبه ولم يقنع بمنصب نائب رئيس الجمهورية بل أصر على الاحتفاظ بكل سلطاته معتمدا على تأييد ومساندة قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة الذين أقطعهم ثم ساندوه بعد ذلك في إعتداءاته المتكررة على الشرعية قبل النكسة، و أصبحوا في مركب واحد إن تركها القائد غرقت بمن فيها ويبقى وضعهم في قفص الإتهام سهلا ومن ناحية أخرى، فالخوف من المصير المشترك جعلهم يتكتلون مع بعضهم البعض من ناحية ومع المشير عامر من جهة أخرى وهذا ما دفعه ليكون متصلبا في مواقفه بعد عدوان 1956 وما جعله يفكر في قلب نظام الحكم بعد هزيمته العسكرية 1967 في الوقت الذي كان فيه الآلاف من أبناء مصر يذبحون ويقتلون ويؤسرون على أرض سيناء بعد النكسة ومع هذا لم يشأ أن يتخلى متحملا مسؤولية مصائر هؤلاء وعائلاتهم…

وبعد أن قبل التنحي ليلة 8/9 يونيو1967 عاد فتمسك بسلطاته ومناصبه حيث أفهم كما قدر هو أيضا وقد يكون السببان معا أن تفسر الاستقالة على أنها إقرار منه بمسؤوليته عن النكسة وكانت النوايا هي التركيز على تحميل القيادة السياسية المسؤولية كاملة وهو ما تمسك به كل المقربين منه حتى يوم انتحاره ويمكن حتى اليوم وغدا أيضا.

فكان تمسكه بمناصبه وسلطاته وعدم قبول منصب نائب رئيس الجمهورية وقام بتحويل منزله في الجيزة إلى ثكنة عسكرية نقل إليها الكثير من العناصر والمعدات ووصل به الأمر لاستدعاء حوالي الثلاثمائة رجل من “إسطال” للمشاركة في حراسته علاوة على بعض أفراد من الشرطة العسكرية وبمعنى آخر تحدى السلطة الشرعية بشكل ظاهر مما ترتب عليه بوادر انقسامات في القوات المسلحة وفي مجلس الأمة لدرجة أن بعض الوحدات العسكرية تحركت في شكل مظاهرات يقود بعضها ضباط هاتفين بحياة عبد الحكيم عامر.

كما تم في 21يوليو1967 نقل الأسلحة التي كانت موجودة في منزل المشير عامر بمنطقة حلمية الزيتون إلى منزله بالجيزة، وحدثت بعض الصدامات وتبادل إطلاق نيران بين من كانوا في بيت المشير وبعض قوات الأمن.

وفي الخامس من أغسطس 1967 وقع اشتباك بين حرس المشير وبين قوات الأمن التي كانت تطارد أحد الضباط من الذين كانوا يقيمون في الجيزة وكان مطلوبا للتحقيق معه في إحدى القضايا المدنية.

وبدأ في نفس الوقت توزيع ما سمي باستقالة المشير عبد الحكيم عامر وهي الاستقالة التي سبق أن تقدم بها للرئيس عبدالناصر في ديسمبر1962 وهي ما عرفت بأزمة مجلس الرئاسة الخاصة بتعديل قانون ترقيات قادة القوات المسلحة من رتبة العقيد فما فوق.

واستلم صلاح نصر كمية من الذهب ومبلغ ستين ألف جنيه من المصروفات السرية من التي في عهدته في خزينة جهاز المخابرات العامة، والتي لم يوقع إيصالا باستلامها كما تقضي الأصول والتعليمات المعمول بها. والذي يهمنا هنا هو أن المشير عبدالحكيم عامر سلم عباس رضوان في منتصف شهر يونيو (حزيران) 1967 خمسة أكياس وكل كيس يحتوي على ألف جنيه ذهب وقد قام عباس رضوان بإخفاء هذه الأكياس في بلدة “الحرانية” بلدته في محافظة الجيزة، كما سلمه المشير أيضا أربعين رشاشا قصيرا وخمسة صناديق ذخيرة لها ومائة وثمانية مسدسات واعترف عباس رضوان في التحقيقات بأنه استلم هذه المبالغ وهذه الأسلحة والذخيرة من صلاح نصر.

(أرجو الرجوع إلى نصوص محاضر التحقيقات التي قامت به المخابرات الحربية والنيابة العامة برئاسة علي نور الدين النائب العام في هذه القضية كما أرجو الرجوع إلى تفاصيل المحاكمة أمام محكمة الثورة برئاسة حسين الشافعي ولقد كانت المحاكمة علنية ومنشورة ومحاضرها وتسجيلاتها الصوتية التي قام بها العميد إبراهيم سلامة من المخابرات الحربية والتي كانت محفوظة في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة).

وتبلورت كل هذه الأنشطة في نتيجة واحدة هي أن المشير عامر ورجاله يقومون بالإعداد لمؤامرة لقلب نظام الحكم يتم تنفيذها يوم 27 أغسطس (آب1976) وحددت المعلومات تفاصيل هذه المؤامرة من ورقة كتبت بخط يد المشير عبد الحكيم عامر حدد فيها الأهداف والغرض من التحرك والأشخاص الرئيسيين وحدد المسؤوليات بالشكل التالي:

1-تحرك معنوي داخل القوات المسلحة لإحداث بلبلة وإنقسامات ومحاولة نيل أكبر تأييد ممكن والتهيئة لتقبل الإنقلاب الذي كان هدفه كما لقنوهم الديمقراطية والحريات.

2-مرحلة تنفيذ محاولة الاستيلاء على الحكم وكما جاء في الورقة التي تحصلت عليها بخط يد المشير عامر من غرفة نومه بمثابة أمر عمليات وتحرك للاستيلاء على السلطة – وهذه الورقة كانت محفوظة في الأرشيف السري للغاية في سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري – وكان ملخصها:

“يؤمّن المقدم أحمد عبد الله من الصاعقة القوات لوصول المشير عبد الحكيم عامر إلى إنشاص مقر قيادة الصاعقة والقاعدة الجوية التي كان من المفروض أن يتم تأمينها لصالح العملية التآمرية ثم يتحرك المشير عامر إلى قيادة المنطقة الشرقية بالإسماعيلية تحت حماية الصاعقة وبعض ضباط القيادة الشرقية الذين تم الإتفاق معهم على تأييد مطالب المشير عامر ومن الإسماعيلية يوجه المشير عامر نداء للرئيس جمال عبد الناصر بمطالبه التي لم تخرج عما جاء في الاستقالة المزعومة. وكان التقدير أن الرئيس لن يقبل أو يستجيب لهذه المطالب فيتم تحرك المشير عامر على رأس قوات عسكرية إلى القاهرة وجاء في الورقة عبارة “منشية البكري”.

-7-

خطة لمواجهة وإحباط المؤامرة

الحقيقة كانت مهمة صعبة وقاسية على نفوسنا جميعا كما كانت واجبة، فالهدف كان تثبيت وتأكيد الشرعية في وقت كانت الأرض فيه محتلة والعدو على بعد كيلومترات معدودة من القاهرة.

ومن ناحية أخرى كان المستهدف من الخطة المشير عبد الحكيم عامر الذي كنا كلنا بدون استثناء نحبه بصدق ونقدره بل وكنا نعتبره كشخص جمال عبد الناصر تماما ومن ثم كان الرجل يحوز في نفس الوقت على ثقة أجهزة حساسة بالإضافة إلى شعبية كبيرة في القوات المسلحة فقد كانت المخابرات العامة وعلى رأسها صلاح نصر قد حسم موقفه إلى جوار المشير عامر والمعلومات المتوفرة الموثوق بها والمؤكدة تفيد أن قطاعا كبيرا من الشرطة العسكرية والصاعقة ووحدات من المدرعات وعناصر من المخابرات الحربية علاوة على قادة الأسلحة الرئيسية فيما عدا الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان، كانت كلها محسوبة إلى جانب المشير عبد الحكيم عامر بالإضافة إلى بعض العناصر المدنية وبعض أعضاء مجلس الأمة خصوصا أعضاء محافظة المنيا وقلة من ضباط الشرطة.

وحتى صدور تعليمات عبد الناصر بالتحضير لمقابلة تحرك المشير لم يكن قد وصلني أي أخبار أو معلومات عن توقيتات محددة أو تقريبية للتحرك وإن كنا قد استنتجنا، وهذا واجب طبعا، توقيتات قريبة وهذا ما جعلنا نتوخى وسائل الحرص الشديد وصبغ ما سنبحثه بصبغة السرية المطلقة بقدر الإمكان فاتفقنا بصفة مبدئية أن تتم لقاءاتنا في مكان منعزل من نادي الشمس الرياضي الذي كنت في ذلك الوقت أتشرف بتولي مسؤولية رئاسته وإنشائه بتكليف من الرئيس عقب زيارتنا لنيويورك سنة 1960 ومشاهدة الرئيس للحديقة المركزية هناك فطلب مني أن أبحث إمكانية تنفيذ مشروع مماثل في صحراء مصر الجديدة (مشروع نادي الشمس).

أعود لأقول إننا اتفقنا نحن الثلاثة على أن تكون هذه البقعة المنعزلة هي مكان اللقاء في وقت متأخر من الليل حتى يسهل اكتشاف أي اختراق أو تتبع لنا كما تم في نفس الوقت تأمين المكان الذي نلتقي فيه من كافة الجوانب والاحتمالات بما في ذلك تأمين الاتصال الذي تفادينا معه التليفون حيث أنه وسيلة لو اكتشفت يمكن تحديد المكان بل كان الاتصال يتم عن طريق جهاز اللاسلكي من سيارتي ولم تكن وسائل كشف مثل هذا الاتصال متقدمة كما هي الآن كما كانت التعليمات لمكاتبنا أن يقتصر الاتصال على حالات الضرورة القصوى وبواسطة مندوب من مكتبي يحضر إليّ ليبلغنا أي رسائل عاجلة إذا اقتضى الأمر ذلك.

وحرصا منا على السرية المطلقة كما أسلفت فقد اتفقنا على إطلاق اسم كودي لهذه الخطة هو: “العملية جونسون” يندرج تحت هذا الاسم الكودي كل ما يتعلق بالعملية من اتصالات أو لقاءات أو تعليمات كما اتفقنا أن تكون الخطة بسيطة ومن دون أي تعقيدات، ويمكن تلخيص حصيلة المناقشات التي دارت بيننا في أن يكون العمود الفقري للخطة هو الانفراد بالمشير عامر بأقل حجم ممكن من الحراسة والتحفظ عليه في مكان تحت السيطرة وأن يتم في نفس الوقت تصفية أي جيوب كمنزل الجيزة أو الحلمية وغيرهما من الأماكن التي قد يكون فيها عناصر موالية له.

وبدأنا نبلور هذه الأفكار في شكل خطوات عملية بدأت بالفكرة التالية:

كان المشير عامر يتردد على منطقة مصر الجديدة (منزله في حلمية الزيتون) في المساء ويعود إلى الجيزة عن طريق صلاح سالم لم يكن الحال كما هو الآن من الازدحام بل كان هذا الطريق في ذلك الوقت يقال عنه أنه “مقطوع” ويعتبر مقفرا ليلا وأثناء عودته يتم وضع عوائق في الطريق بحيث يضطر إلى تهدئة السيارة ويتم إيقافها والسيطرة عليه هو ومن معه بسرعة تحول دون أي اشتباك، وحتى لو تم الاشتباك يكون في أضيق نطاق ويكون الهدف الأساسي إحاطة شخص المشير وأخذه إلى سيارة أخرى لينقل إلى مكان متفق عليه يتم تجهيزه قبل إتمام عملية الاعتراض هذه.

وعرضت الإطار العام للخطة على الرئيس عبد الناصر الذي طلب بعد أن وافق على الفكرة بصفة عامة مبدئيا، أن توضع كافة التفاصيل على الورق وتم ذلك في جلسات أخرى لاحقة حيث وضعنا خطة كاملة متكاملة شملت كافة خطوات التحرك والتعرض والسيطرة وأسماء وواجبات الأفراد والأجهزة التي ستتعاون في تنفيذ الخطة.

(هذه الخطة كتبت بخط يدي وكانت محفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات السري للغاية في منشية البكري وكان المسؤول عنه توفيق عبد العزيز أحمد).

وبالمناسبة كان جمال عبد الناصر قد توجه إلى الإسكندرية (المعمورة) لأخذ قسط من الراحة ولمراجعة بعض المسائل الهامة المتعلقة بإعادة بناء القوات المسلحة وكنت في ذلك الوقت أعرض عليه المسائل المهمة بشخصي فكنت أتوجه للمعمورة ثم أعود فور مقابلته إلى القاهرة إما بالسيارة أو بالهليوكوبتر، حاملا التوجيهات.

وفي يوم الخامس من أغسطس (آب) 1967 اتصل بي زكريا محيي الدين تليفونياً وطلب أن أتوجه إلى منزله الساعة الثامنة من مساء نفس اليوم وقال: “تعال لوحدك.. ومش عايز حد يعرف إنك جاي لي، أي حد”!

وفي اللقاء اليومي مع أمين هويدي وشعراوي جمعة كان يتم ثلاث مرات في اليوم في الصباح الباكر وظهرا وفي آخر يوم العمل في وقت متأخر ليلا – اتضح أن زكريا محيي الدين اتصل بهما وطلب منهما التوجه إلى منزله في نفس التوقيت بفواصل ربع ساعة بين كل منهما لكننا اتفقنا على الذهاب سويا وفي سيارة واحدة هي سيارتي رقم 995 ملاكي القاهرة ووصلنا في الثامنة تماما ودخلنا إلى الصالون الذي اسقبلنا فيه زكريا محيي الدين مندهشا ومبتسماً كعادته ولم يعلق بأكثر من هذه الإبتسامة المعبرة وذات المعنى بالنسبة لنا وله.

وقال زكريا محيي الدين: إن الرئيس جمال عبد الناصر أطلعه على الخطة في الإسكندرية وطلب منه العودة إلى القاهرة لمراجعة التفاصيل معنا وبعد المناقشة وافق على الفكرة العامة ولكنه طلب أن تبسّط الخطة أكثر مع الأخذ في الاعتبار أية احتمالات أو مواقف مفاجئة أو غير متوقعة، على أن نعود للاجتماع به بعد ثمان وأربعين ساعة في نفس الوقت ومن دون تأكيد أو اتصالات أخرى.

وعدنا من جديد إلى نادي الشمس لنواصل البحث وتعديل الخطة لتكون أكثر بساطة ونتفادى فيها بقدر الإمكان المفاجآت، والحقيقة أننا كنا في سباق مع الزمن لسببين رئيسيين:

*أولهما: أن أطراف المؤامرة كانوا – وفق المتابعة – قد ضاعفوا من نشاطهم وتوسعت اتصالاتهم نسبيا مما يرجح احتمالات التنفيذ في وقت غير بعيد.

*والثاني أنه لابد من حسم الوضع من جانب الشرعية لقرب إنعقاد مؤتمر الخرطوم في 29أغسطس1967 وإلا فسيكون البديل الذي يجب تفاديه هو أن يصطحب الرئيس المشير عامر معه إلى الخرطوم ولو في هدنة مؤقتة. وكان القرار هو حتمية الحسم قبل الخرطوم.

هذا علاوة على سبب خارجي آخر وهو أن العدو كان يراهن على إنهيار الوضع الداخلي كوسيلة لتحقيق الهزيمة السياسية التي لم يستطع ان يحققها وبقي النظام ولم يسقط، فإذا حقق العدو ما يسعى لتحقيقه على الجبهة الداخلية فإنه سيكون قد حقق أهدافه فكان لابد من مقاومة هذا الهدف وإسقاطه بالإصرار على تماسك الجبهة الداخلية بأسرع وقت ممكن والقضاء على أسباب انهيارها لتعود القوات المسلحة إلى انتظامها والتحام نسيجها وذلك حتى يتفرغ الجميع لإعادة البناء وما يتبعه.

وبناء على هذه الأسباب اتفقنا على خطة جديدة بسيطة وشاملة وملخصها الآتي:

1- يدعى المشير عبد الحكيم عامر للقاء جمال عبد الناصر في منشية البكري وليكن لتناول طعام العشاء مع الرئيس أو لأي سبب آخر قد يراه الرئيس مناسبا وفي هذا اللقاء يبلغ المشير عامر بتحديد إقامته بعد إجراء مواجهة معه حول كل ما حدث وبدر منه ومن الذين يساندونه مع مواجهته بما يثبت أن تصرفاته ضد الشرعية وأن هدفها هو قلب نظام الحكم بالقوة.

2- تتجه قوة عسكرية إلى منزل المشير عامر بالجيزة لحصاره وتصفية الوضع فيه والقبض على الأفراد المعتصمين هناك على أن تتم هذه العملية قبل فجر اليوم التالي للعملية.

3- تتم السيطرة على جهاز المخابرات العامة إما في نفس الليلة أو في الصباح الباكر من اليوم التالي.

وافق الرئيس عبد الناصر على هذه الخطة وبدأ على الفور في إجراء بعض الاتصالات بمعرفته مع عباس رضوان ليبلغ المشير عامر أنه يدعوه للعشاء في منشية البكري اليوم التالي وألمح له أن مؤتمر القمة بالخرطوم سيعقد يوم 29 اغسطس (آب) وأن الرئيس يأمل أن يكون فيه دعما لموقفنا ولم يزد عن ذلك.

وفي صباح يوم الخميس 24 أغسطس (آب) 1967 اتصل جمال عبد الناصر بنفسه بالمشير عبدالحكيم عامر في بيته بالجيزة ودعاه لتناول العشاء في منشية البكري في السابعة من مساء يوم الجمعة 25 أغسطس (آب) وافق المشير على الفور ووعد الرئيس بأنه سيحضر في الموعد المحدد.

وعقد الرئيس اجتماعا حضره أمين هويدي وشعراوي جمعة وسامي شرف لمراجعة الخطة بالتفصيل مع تحديد واجبات كل المشتركين فيها فردا فردا وكنت قد كتبت الخطة بخط يدي من نسخة واحدة فقط، واشتملت على تفاصيل التفاصيل علاوة على بعض الاستفسارات التي أردت أن نستوضح الرئيس بشأنها ومنها موقف السكرتارية الخاصة للرئيس وبالذات محمد أحمد الذي تكفل الرئيس بأمره وقال لي أنه سيتولى هو إبلاغه في الوقت المناسب. كما استفسرت من الرئيس عن التوقيت الذي تبدأ فيه ساعة الصفر لأننا سنحتاج لبعض التحضيرات والتبليغات قبل تحرك القوات والأطقم المكلفة بالتنفيذ فرد الرئيس بألا يتم أي تصرف إلا بأمر صريح منه شخصياً وقال على العموم سنلتقي هنا في المكتب الرئيس باكر ظهرا عقب صلاة الجمعة مباشرة.

كما ذكر عبد الناصر بأنه سيتولى هو شخصيا إبلاغ من سيحضر اللقاء مساء الجمعة من النواب وقال أنه سيحضر كل من زكريا محيي الدين وأنور السادات وحسين الشافعي ولم يكن أحد منهم يعلم أي شيء عما سيحدث إلا زكريا محيي الدين فقط الذي كان على دراية بالخطة كلها بالتفصيل.

أ. سامي شرف

مدير مكتب الرئيس عبد الناصر – وزير شؤون رئاسة الجمهورية الأسبق 

نقلا عن مجلة الوعى العربى 






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بناء مصر ..جمهورية يوليو الثائرة (الجمهورية الأولى) .. تأسيس النهضة الصناعية من الابرة للصاروخ

خيانات حرب يونيو 1967

المخصيين بالتاريخ المصرى "حكاية حزينة من الماضي"