قرأت لك - كتاب فلسفة الثورة... بقلم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

 

كتاب فلسفة الثورة... بقلم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

فلسفة الثورة
اعداد محمد شوقى السيد 
مقدمة
إن هذه الخواطر عن فلسفة الثورة ليست محاولة لتأليف كتاب …
ولا هي محاولة لشرح أهداف ثورة 23 يوليو وحوادثها .. إنما هي شيء آخر تماماً ... انها أشبه ماتكون بدورية استشكاف ...
انها محاولة لاستكشاف نفوسنا لكي نعرف من نحن وما هو دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات ...
ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر ، لكي نعرف في أي طريق نسير ...
ومحاولة لاستكشاف أهدافنا والطاقة التي يجب أن نحشدها لنحقق هذه الأهداف ...
ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا ، لنعرف اننا لا نعيش في جزيرة يعزلها الماء من جميع الجهات ...
هذا هو الذي قصدت إليه ...
مجرد داورية استكشاف في الميدان الذي نحارب فيه ، معركتنا الكبرى من اجل تحرير الوطن من كل الاغلال !..
جمال عبد الناصر

الجزء الأول

ليست فلسفة – محاولات لم تتم – ليست مجرد تمرد – كنا في فلسطين وأحلامنا في مصر – أحمد عبد العزيز قبل أن يموت – درس من اسرائيل – أيام التلمذة – الحقيقة والفراغ – لماذا كان لابد أن يتحرك الجيش – الصورة الكاملة – الطليعة والجموع – أقصى الأماني – نموذج من أعضاء مجلس قيادة الثورة – أزمات نفسية – ثورتان في وقت واحد – لكيلا يقع تصادم على الطريق .

قبل أن أمضي في هذا الحديث أريد أن أقف قليلاً عند كلمة " فلسفة " ..
ان الكلمة ضخمة وكبيرة ..
وأنا أحس وأنا واقف حيالها أني امام عالم واسع ليس له حدود ، وأشعر في نفسي برهبة خفية تمنعني من ان اخوض في بحر ليس له قاع ، ولا أرى له على البعد ، من الشاطىء الذي أقف فيه ، شاطئاً آخر أنتهي إليه ..
والحق أني أريد أن اتجنب كلمة فلسفة في هذا الذي سأقوله ، ثم أنا أظن انه من الصعب عليّ أن اتحدث عن فلسفة الثورة .
من الصعب لسببين :
أولهما أن الحديث عن فلسفة ثورة 23 يوليو يلزمه أساتذة يتعمقون في البحث عن جذورها الضاربة في أعماق تاريخ شعبنا .
وقصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوات يملأها الهباء ، و كذلك ليس فيها مفاجآت تقفز إلى الوجود دون مقدمات .. ان كفاح أي شعب ، جيلاً بعد جيل ، بناء يرتفع حجراً فوق حجر .. وكما أن كل حجر في البناء يتخذ من الحجر الذي تحته قاعدة يرتكز عليها ، كذلك الأحداث في قصص كفاح الشعوب .
كل حدث منها هو نتيجة لحدث سبقه وهو في نفس الوقت مقدمة لحدث ما زال في ضمير الغيب ..
***
ولست اريد أن ادعي لنفسي مقعد أستاذ التاريخ ..
ذلك آخر ما يجري به خيالي .
ومع ذلك فلو حاولت محاولة تلميذ مبتدىء ، في دراسة قصة كفاح شعبنا ، فإني سوف أقول مثلاً ان ثورة 23 يوليو هي تحقيق للأمل الذي راود شعب مصر ، منذ بدأ في العصر الحديث يفكر في أن يكون حكمه بايدي أبنائه ، وفي ان تكون له نفسه الكلمة العليا في مصيره ..
لقد قام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، يوم تزعم السيد عمر مكرم حركة تنصيب محمد علي والياً على مصر ، باسم شعبها …
وقام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، يوم حاول عرابي أن يطالب بالدستور …
وقام بمحاولات متعددة ، لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، في فترة الغليان الفكري التي عاشها بين الثورة العرابية وثورة 1919 .
وكانت هذه الثورة الأخيرة – ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول . محاولة أخرى لم تحقق له الأمل الذي تمناه .
وليس صحيحاً أن ثورة 23 يوليو قامت بسبب النتائج التي اسفرت عنها حرب فلسطين ، وليس صحيحاً كذلك أنها قامت بسبب الأسلحة الفاسدة التي راح ضحيتها جنود وضباط ، وابعد من ذلك عن الصحة ما يقال من ان السبب كان أزمة انتخابات نادي ضباط الجيش .
إنما الأمر في رأيي كان ابعد من هذا واعمق أغوراً .
ولو كان ضباط الجيش حاولوا ان يثوروا لأنفسهم لأنه قد غرر بهم في فلسطين أو لأن الاسلحة الفاسدة أرهقت أعصابهم ،أو لأن اعتداء وقع على كرامتهم في انتخابات نادي ضباط الجيش ، لما كان الأمر يستحق ان يكون ثورة ، ولكان أقرب الأشياء إلى وصفه أنه مجرد تمرد ، حتى وإن كانت الأسباب التي ادت إليه منصفة عادلة بحد ذاتها .
لقد كانت هذه كلها أسباباً عارضة …
وربما كان أكبر تأثير لها انها كانت تستحثنا على الاسراع في طريق الثورة ، ولكننا كنا من غيرها نسير على هذا الطريق .
وأنا أحاول اليوم بعد كل ما مر بي من احداث ، وبعد سنوات طويلة من بدء التفكير في الثورة ، أن أعود بذاكرتي وأتعقب اليوم الأول الذي اكتشفت فيه بذورها في نفسي .
ان هذا اليوم ابعد في حياتي من أيام شهر نوفمبر سنة 1951 أيام ابتداء أزمة نادي الضباط ، ففي ذلك الوقت كان تنظيم الضباط الأحرار قائماً يباشر عمله ونشاطه ، بل أنا لا أغالي إذا قلت ان أزمة انتخابات النادي أثارها أكثر من أي شيء آخر نشاط الضباط الأحرار ، فقد شئنا في ذلك الوقت ان ندخل معركة نجرب فيها قوتنا على التكتل وعلى التنظيم .
وهذا اليوم – في حياتي أيضاً – أبعد من بدء فضيحة الأسلحة الفاسدة ، فقد كان تنظيم الضباط الأحرار موجوداً قبلها ، وكانت منشوراتهم اول نذير بتلك المأساة ، وكان نشاطهم وراء الضجة التي قامت حول الأسلحة الفاسدة .
***
بل ان هذا اليوم في حياتي أبعد من يوم 16 مايو سنة 1948 ذلك اليوم الذي كان بداية حياتي في حرب فلسطين .
وحين أحاول الآن أن استعرض تفاصيل تجاربنا في فلسطين أجد شيئاً غريباً .
فقد كنا نحارب في فلسطين ، ولكن احلامنا كانت كلها في مصر .
كان رصاصنا يتجه إلى العدو الرابض امامنا في خنادقه ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذي تركناه للذئاب ترعاه ..
وفي فلسطين كانت خلايا الضباط الأحرار تدرس وتبحث وتجتمع في الخنادق والمراكز .
وفي فلسطين جاءني صلاح سالم و زكريا محي الدين واخترقنا الحصار إلى الفالوجا ، وجلسنا في الحصار لا نعرف له نتيجة ولا نهاية ، وكان حديثنا الشاغل وطننا الذي يتعين علينا أن نحاول انقاذه …
وفي فلسطين جلس بجواري مرة كمال الدين حسين وقال لي وهو ساهم الفكر شارد النظرات :
- هل تعلم ماذا قال لي أحمد عبد العزيز قبل أن يموت ؟
قلت :
- ماذا قال ..؟
وقال كمال الدين حسين وفي صوته نبرة عميقة وفي عينيه نظرة أعمق :
- لقد قال لي : اسمع يا كمال ، ان ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر …
***
ولم التق في فلسطين بالاصدقاء الذين شاركوني في العمل من أجل مصر ، وانما التقيت أيضاً بالافكار التي أنارت أمامي السبيل .
وانا أذكر أيام كنت اجلس في الخنادق واسرح بذهني إلى مشاكلنا …
كانت الفالوجة محاصرة ، وكان تركيز العدو عليها ضرباً بالمدافع والطيران تركيزاً هائلاً مروعاً .
وكثيراً ما قلت لنفسي :
" ها نحن هنا في هذه الجحور محاصرين . لقد غرر بنا ، دفعنا إلى معركة لم نعد لها ، لقد لعبت بأقدارنا مطامع ومؤامرات وشهوات وتركنا هنا تحت النيران بغير سلاح " .
وحين كنت اصل إلى هذا الحد من تفكيري كنت أجد خواطري تقفز فجأة عبر ميادين القتال ، وعبر الحدود، إلى مصر ، وأقول لنفسي :
" هذا هو وطننا هنا ، انه " فالوجة " أخرى على نطاق كبير ..
ان الذي يحدث لنا هنا صورة من الذي يحدث هناك … صورة مصغرة ..
وطننا هو الآخر حاصرته المشاكل والاعداء ، وغرر به … ودفع إلى معركة لم يعد لها ، ولعبت بأقداره مطامع ومؤامرات وشهوات ، وترك هناك تحت النيران بغير سلاح !
***
وأكثر من هذا ، لم يكن الاصدقاء هم الذين تحدثوا معي عن مستقبل وطننا في فلسطين ولم تكن التجارب هي التي قرعت افكارنا بالنذر والاحتمالات عن مصيره ، بل ان الاعداء أيضاً لعبوا دورهم في تذكيرنا بالوطن ومشاكله ...
ومنذ اشهر قليلة قرأت مقالات كتبها عني ضابط اسرائيلي اسمه " يردهان كوهين " ونشرتها له جريدة " جويشن أوبزرفر " وفي هذه المقالات روى الضابط اليهودي كيف التقى بي أثناء مباحثات واتصالات عن الهدنة وقال :
" لقد كان الموضوع الذي يطرقه جمال عبد الناصر معي دائماً هو كفاح اسرائيل ضد الانجليز ، وكيف نظمنا حركة مقاومتنا السرية لهم في فلسطين وكيف استطعنا أن نجند الرأي العام في العالم وراءنا في كفاحنا ضدهم " .
***
ثم أن هذا اليوم – اليوم الذي اكتشفت فيه بذور الثورة في نفسي – أبعد من حادث 4 فبراير سنة 1942 الذي كتبت بعده خطابات إلى صديق قلت له فيه :
" مالعمل بعد أن وقعت الواقعة وقبلناها مستسلمين خاضعين خانعين ..؟
الحقيقة اني اعتقد ان الاستعمار يلعب بورقة واحدة في يده ، بقصد التهديد فقط ، ولكن لو أنه أحس ان بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم ويقابلون القوة بالقوة لأنسحب كأي امراة من العاهرات .. "
وطبعاً هذا حاله أو تلك عادته …
أما نحن ، اما الجيش ، فقد كان لهذا الحادث تأثير جديد على الروح والاحساس فيه ، فبعد أن كنت ترى الضباط لا يتكلمون الا عن الفساد واللهو . اصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس في سبيل الكرامة ، وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا – مع ضعفهم الظاهر – ويردوا للبلاد كرامتها ، ويغسلوها بالدماء ، ولكن ان غداً لناظره قريب …
لقد حاول البعض بعد الحادث أن يعملوا شيئاً بغية الانتقام . ولكن الوقت كان قد فات ، أما القلوب فكلها نار وأسى …
والواقع أن هذه الحركة … ان هذه الطعنة ردت الروح الى بعض الاجساد ، وعرفتهم ان هناك كرامة يجب ان يستعدوا للدفاع عنها ، وكان هذا درساً قاسياً .
***
وكذلك فان هذا اليوم أبعد في حياتي من الفوران الذي عشت فيه أيام كنت طالباً أمشي مع المظاهرات الهاتفة بعودة دستور سنة 1923 - وقد عاد الدستور بالفعل – في سنة 1935 … وأيام كنت أسعى مع وفود الطلبة ، إلى بيوت الزعماء نطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر ، وتألفت الجبهة الوطنية سنة 1936 بالفعل على أثر هذه الجهود .
وأذكر انني في فترة الفوران هذه كتبت خطاباً إلى صديق من اصدقائي – قلت فيه ، وكان تاريخه 2 سبتمبر سنة 1935 :
" أخي .. خاطبت والدك يوم 30 اغسطس في التليفون وقد سألته عنك فأخبرني أنك موجود في المدرسة …
لذلك عولت على أن اكتب إليك ما كنت سأكلمك فيه تليفونياً ..
قال الله تعالى " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. " فأين تلك القوة التي نستعد بها لهم ؟
" ان الموقف اليوم دقيق ، ومصر في موقف أدق … ونحن نكاد نودع الحياة ونصافح الموت ، فإن بناء اليأس عظيم الاركان ، فأين من يهدم هذا البناء …؟ "
ثم مضيت في الخطاب إلى آخره …
وإذن فمتى كان ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه بذور الثورة في اعماقي ؟
فإذا اضيف الى هذا كله ، ان تلك البذور لم تكن كامنة في أعماقي وحدي ، وانما وجدتها كذلك في اعماق كثيرين غيري هم الآخرون بدورهم لا يستطيع الواحد منهم أن يتعقب بداية وجودها داخل كيانه ، لاتضح اذن أن هذه البذور ولدت في أعماقنا حين ولدنا ، وانها كانت أملاً مكبوتاً خلفه في وجداننا جيل سبقنا …
***
ولقد استطردت وراء هذا كله لأشرح السبب الأول الذي من أجله وجدت من الصعب علي أن أتحدث عن فلسفة الثورة وقلت أن هذا الحديث يلزمه اساتذة يتعمقون في البحث عن جذورها الضاربة في أعماق تاريخ شعبنا …
أما السبب الثاني فهو انني كنت بنفسي داخل الدوامة العنيفة للثورة ..
والذين يعيشون في أعماق الدوامة قد تخفى عليهم بعض التفاصيل البعيدة عنها …
وكذلك كنت بايماني وعقلي وراء كل ما حدث ، وبنفس الطريقة التي حدث بها ، وإذن فهل أستطيع ان اتجرد من نفسي حين اتكلم عنه ، وحين اتكلم عن المعاني المستترة وراءه ؟
أنا من المؤمنين بأنه لا شيء يمكن أن يعيش في فراغ …
حتى الحقيقة لا يمكن أن تعيش في فراغ …
والحقيقة الكامنة في أعماقنا هي : ما نتصور نحن أنه الحقيقة ، او بمعنى اصح : هو الحقيقة مضافاً إليها نفوسنا …
نفوسنا هي الوعاء الذي يعيش فيه كل ما فينا ، وعلى شكل هذا الوعاء سوف يتشكل كل ما يدخل فيه ، حتى الحقائق .
وانا احاول – بقدر ما تستطيع طاقتي البشرية – أن امنع نفسي من أن تغير كثيراً من شكل الحقيقة ولكن إلى أي حد سوف يلازمني التوفيق ؟
هذا سؤال !
وبعده اريد أن أكون منصفاً لنفسي ، ومنصفاً لفلسفة الثورة ، فأتركها للتاريخ يجمع شكلها في نفسي ، وشكلها في نفوس غيري ، وشكلها في الحوادث جميعاً ، ويخرج من هذا كله بالحقيقة كاملة …
***
وإذن فما الذي أريد أن اتحدث عنه إذا كنت قد استبعدت كلمة " فلسفة " ؟ الواقع ان الذي أملكه في هذا الصدد شيئان :
اولهما مشاعر اتخذت شكل الأمل المبهم ، ثم شكل الفكرة المحددة ، ثم شكل التدبير العملي ، حتى منتصف ليل 23 يوليو .
وثانيهما تجارب وضعت هذه المشاعر ، بأملها المبهم ، وفكرتها المحددة ، وتدبيرها العملي ، موضع التنفيذ العملي ، في منتصف ليل 23 يوليو حتى الآن …
وعن هذه المشاعر والتجارب أريد أن اتحدث …
لطالما ألح على خواطري سؤال هو :
" هل كان يجب ان نقوم ، نحن الجيش بالذي قمنا به في 23 يوليو سنة 1952 ؟ "
لقد قلت منذ سطور ، ان ثورة 23 يوليو كانت تحقيقاً لأمل كبير راود شعب مصر ، منذ أن بدأ في العصر الحديث يفكر في أن يكون حكمه في أيدي أبنائه ، وفي ان تكون له نفس الكلمة العليا في مصيره…
وإذا كان الأمر كذلك ، ولم يكن الذي حدث يوم 23 يوليو تمرداً عسكرياً وليس ثورة شعبية ، فلماذا قدر للجيش ، دون غيره من القوى ، أن يحقق هذه الثورة ؟
ولقد آمنت بالجندية طول عمري ، والجندية تجعل للجيش واجباً واحداً هو ان يموت على حدود وطنه ، فلماذا وجد جيشنا نفسه مضطراً للعمل في عاصمة الوطن ، وليس على حدوده ؟
ومرة أخرى ، دعوني أنبه إلى ان الهزيمة في فلسطين ، والاسلحة الفاسدة وازمة نادي الضباط،
لم تكن المنابع الحقيقية التي تدفق منها السيل ، لقد كانت هذه كلها عوامل مساعدة على سرعة التدفق ولكنها كما سبق أن قلت – لا يمكن أبداً أن تكون هي الأصل والأساس .
وإذن فلماذا وقع على الجيش هذا الواجب ؟
قلت طالما ان هذا السؤال ألح على خواطري …
ألح عليها ونحن في دور الأمل والتفكير والتدبير بعد 23 يوليو .
وألح عليها في مراحل كثيرة من التجربة بعد 23 يوليو .
ولقد كانت أمامنا مبررات مختلفة قبل 23 يوليو تشرح لنا لماذا يجب أن نقوم بالذي قمنا به …
كنا نقول : إذا لم يقم الجيش بهذا العمل فمن يقوم به ؟
وكنا نقول " كنا نحن الشبح الذي يؤرق به الطاغية أحلام الشعب ، وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية ويبدد أحلامه هو …
وكنا نقول غير هذا كثيراً ، ولكن الأهم من كل ما نقوله ، اننا كنا نشعر شعوراً يمتد إلى أعماق وجودنا بأن هذا الواجب واجبنا ، واننا إذا لم نقم به نكون كأننا قد تخلينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها …
ولكني اعترف أن الصورة الكاملة لم تتضح في خيالي الا بعد فترة طويلة من التجربة عقب 23 يوليو…
وكانت تفاصيل هذه التجربة ، هي بعينها تفاصيل الصورة .
***
وأنا أشهد انه مرت على بعد 23 يوليو نوبات اتهمت فيها نفسي وزملائي وباقي الجيش بالحماقة والجنون الذي صنعناه في 23 يوليو …
لقد كنت اتصور قبل 23 يوليو أن الأمة متحفزة متأهبة ، وانها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم امامها السور ، فتندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة تزحف زحفاً مقدساً إلى الهدف الكبير ..
وكنت أتصور دورنا على انه دور طليعة الفدائيين ، وكنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات ، ويأتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير ، بل لقد كان الخيال يشط أحياناً فيخيل إلي أني أسمع صليل الصفوف المتراصة واسمع هدير الواقع الرهيب لزحفها المنظم إلى الهدف الكبير ، اسمع هذا كله ويبدو في سمعي ، من فرط ايماني به ، حقيقة مادية ، وليس مجرد تصورات خيال …
ثم فاجأني الواقع بعد 23 يوليو …
قامت الطليعة بمهمتها ، واقتحمت سور الطغيان ، وخلعت الطاغية ، ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير…
وطال انتظارها …
لقد جاءتها جموع ليس لها آخر .. ولكن ما ابعد الحقيقة عن الخيال ..!
كانت الجموع التي جاءت اشياعاً متفرقة ، وفلولاً متناثرة ، وتعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير، وبدت الصورة يومها قاتمة مخيفة تنذر بالخطر …
وساعتها أحسست وقلبي يملؤه الحزن وتقطر منه المرارة أن مهمة الطليعة لم تنته في هذه الساعة ، وإنما من هذه الساعة بدأت …
كنا في حاجة إلى النظام ، فلم نجد وراءنا إلا الفوضى …
وكنا في حاجة إلى الاتحاد ، فلم نجد وراءنا إلا الخلاف ..
وكنا في حاجة إلى العمل ، فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والتكاسل …
ومن هنا ، وليس من أي شيء آخر ، أخذت الثورة شعارها .
***
ولم نكن على استعداد ..
وذهبنا نلتمس الرأي من ذوي الرأي ، والخبرة من أصحابها … ومن سوء حظنا لم نعثر على شيء كثير …
كل رجل قابلناه لم يكن يهدف إلا إلى قتل رجل آخر !
وكل فكرة سمعناها لم تكن تهدف إلا إلى هدم فكرة اخرى !
ولو أطعنا وسمعنا ، لقتلنا جميع الرجال وهدمنا جميع الافكار ، ولما كان لنا بعدها ما نعمله إلا أن نجلس بين الاشلاء والانقاض نندب الحظ البائس ونلوم القدر التعس !
وأنهالت علينا الشكاوى والعرائض بالالوف ومئات الالوف ، ولو أن هذه الشكاوى والعرائض كانت تروي لنا حالات تستحق الانصاف ، او مظالم يجب ان يعود اليها العدل ، لكان الأمر منطقياً ومفهوماً ولكن معظم ما كان يرد إلينا لم يزد او ينقص عن أن يكون طلبات انتقام … كأن الثورة قامت لتكون سلاحاً في يد الأحقاد والبغضاء !
***
ولو أن أحداً سألني في تلك الأيام ، ماهو أعز أمانيك ؟ لقلت له على الفور :
- أن أسمع مصرياً يقول كلمة انصاف في حق مصري آخر .
أن أحس أن مصرياً قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لأخوانه المصريين …
أن أرى مصرياً لا يكرس وقته لتسفيه آراء مصري آخر …
وكانت هناك بعد ذلك كله أنانية فردية مستحكمة …
كانت كلمة " انا " على كل لسان …
كانت هي الحل لكل مشكلة ، وكانت الدواء لكل داء …
وكثيراً ما كنت أقابل كبراء - او هكذا تسميهم الصحف - من كل الاتجاهات والألوان ، وكنت أسأل الواحد منهم في مشكلة ألتمس عنده حلاً لها فلم أكن أسمع إلا " أنا " …
مشاكل الاقتصاد " هو " وحده يفهمها ، أما الباقون جميعاً فهم في العلم بها أطفال يحبون . ومشاكل السياسة " هو " وحده الخبير بها ، أما الباقون جميعاً فما زالوا في " ألف باء " لم يتقدموا بعدها حرفاً واحداً .
وكنت اقابل الواحد من هؤلاء ، ثم أعود إلى زملائي فأقول لهم في حسرة :
- لا فائدة .. هذا رجل لو سألناه عن مشكلة صيد السمك في جزائر هاواي لما وجدنا عنده جواباً إلا كلمة " أنا " … !
***
أذكر مرة كنت أزور فيها إحدى الجامعات .. ودعوت أساتذتها وجلست معهم أحاول أن أسمع منهم خبرة العلماء .
وتكلم أمامي منهم كثيرون … وتكلموا طويلاً …
ومن سوء الحظ أن أحداً منهم لم يقدم لي أفكاراً ، وإنما كل واحد منهم لم يزد على ان قدّم لي نفسه وكفاياته الخليقة وحدها لعمل المعجزات ، ورمقني كل واحد منهم بنظرة الذي يؤثرني على نفسه بكنوز الأرض وذخائر الخلود !
وأذكر اني لم اتمالك نفسي فقمت بعدها أقول لهم :
" ان كل فرد منا يستطيع في مكانه أن يصنع معجزة ، ان واجبه الأول أن يعطي كل جهده لعمله ، ولو انكم ، كأساتذة جامعات ، فكرتم في طلبتكم ، وجعلتموهم – كما يجب – عملكم الأساسي ، لا ستطعتم أن تعطونا قوة هائلة لبناء الوطن .
ان كل واحد يجب أن يبقى في مكانه ويبذل فيه كل جهده .
لا تنظروا إلينا ، لقد اضطرتنا الظروف أن نخرج من أماكننا لنقوم بواجب مقدس ، ولقد كنا نتمنى لو لم تكن للوطن حاجة بنا إلا في صفوف الجيش كجنود محترفين ، وإذن لبقينا فيه " .
ولم أشأ ساعتها أن اضرب لهم المثل من أعضاء مجلس قيادة الثورة ولم أشأ ان اقول لهم أنهم قبل أن يدعوهم الطاريء الذي دعاهم إلى الواجب الأكبر كانوا يبذلون في عملهم كل جهدهم .
ولم اشأ أن أقول لهم أن معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا اساتذة في كلية أركان الحرب ، وهذا دليل امتيازهم من ناحيتهم كجنود محترفين …
وكذلك لم أشأ أن اقول لهم أن ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة هم : عبد الحكيم عامر ، وصلاح سالم ، وكمال الدين حسين رقوا ترقيات استثنائية في ميدان القتال في فلسطين .
لم أشأ أن أقول لهم شيئاً من هذا ، لأني لا أريد أن أفاخر الناس بأعضاء مجلس قيادة الثورة وهم اخوتي وزملائي ..
***

وأعترف ان هذا الحال كله سبب لي أزمة نفسية كئيبة .
ولكن التجارب فيما بعد ، وتأمل هذه التجارب واستخلاص معانيها الحقيقية خففت من وقع الأزمة في نفسي ، وجعلتني ألتمس لهذا كله أعذاراً من الواقع عثرت عليها حين اتضحت أمامي – إلى حد ما – الصورة الكاملة لحالة الوطن ، واكثر من هذا أعطتني الجواب على السؤال الذي قلت أنه طالما راودني ، وهو :
" هل كان يجب ان نقوم – نحن الجيش – بالذي قمنا به في 23 يوليو ؟ "
والجواب : نعم ، ولم يكن هناك مهرب أو مفر !
وأنا الآن استطيع ان أقول اننا نعيش في ثورتين وليس في ثورة واحدة …
ولكل شعب من شعوب العالم ثورتان :
ثورة سياسية يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه ، أو من جيش معتد أقام في أرضه دون رضاه .
وثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد .
لقد سبقتنا على طريق التقدم البشري شعوب مرت بالثورتين ، ولكنها لم تعشهما معاً ، وإنما فصل بين الواحدة والثانية مئات من السنين ، اما نحن فإن التجربة الهائلة التي امتحن بها شعبنا هي ان تعيش الثورتان معاً في وقت واحد .
***
وهذه التجربة الهائلة مبعثها أن لكل من الثورتين ظروفاً مختلفة تتنافر تنافراً عجيباً ، وتتصادم تصادماً مروعاً ..
ان الثورة السياسية تتطلب لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة وترابطها وتساندها ونكرانها لذاتها في سبيل الوطن كله .
والثورة الاجتماعية ، من اول مظاهرها ، تزلزل القيم وتخلخل العقائد ، وتصارع المواطنين مع أنفسهم أفراداً وطبقات ، وتحكم الفساد والشك والكراهية .. والانانية ..
وبين شقي الرحى هذين ، قدر لنا ان نعيش اليوم في ثورتين : ثورة تحتم علينا أن نتحد ، ونتحاب ، ونتفانى في الهدف . وثورة تفرض علينا – برغم ارادتنا – أن نتفرق ، وتسودنا البغضاء ، ولا يفكر كل منا الا في نفسه ..
وبين شقي الرحى هذين – مثلاً – ضاعت ثورة 1919 ولم تستطع ان تحقق النتائج التي كان يجب ان تحققها .
الصفوف التي تراصت في سنة 1919 تواجه الطغيان ، لم تلبث إلا قليلاً حتى شغلها الصراع فيما بينها أفراداً وطبقات .
وكانت النتيجة فشلاً كبيراً ، فقد زاد الطغيان بعدها تحكماً فينا ، سواء بواسطة قوات الاحتلال السافرة ، أو بصنائع الاحتلال المقنعة التي كان يتزعمها في ذلك الوقت السلطان فؤاد وبعده ابنه فاروق ، ولم يحصد الشعب الا الشكوك في نفسه ، والا الكراهية والبغضاء والاحقاد فيما بين أفراده وطبقاته .
وشحب الأمل الذي كان ينتظر ان تحققه ثورة 1919 .
***
ولقد قلت شحب الأمل ، ولم اقل تلاشى ، ذلك لأن قوى المقاومة الطبيعية التي تدفعها الآمال الكبيرة التي تراود شعبنا ، كانت لا تزال تعمل عملها وتستعد لمحاولة جديدة .
وكان ذلك هو الحال الذي ساد بعد ثورة 1919 ، والذي فرض على الجيش أن يكون وحده القوة القادرة على العمل .
كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد ، يبعد عنهم إلى حد ما صراع الأفراد والطبقات ، وان تكون هذه القوة من صميم الشعب ، وان يكون في استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم ببعض ، وان يكون في يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لها عملاً سريعاً حاسماً ، ولم تكن هذه الشروط تنطبق الا على الجيش .
وهكذا لم يكن الجيش – كما قلت – هو الذي حدد دوره في الحوادث ، وإنما العكس كان اقرب إلى الصحة ، كانت الحوادث وتطوراتها هي التي حددت للجيش دوره في الصراع الكبير لتحرير الوطن .
***
ولقد أدركت منذ البداية ان نجاحنا يتوقف على ادراكنا الكامل لطبيعة الظروف التي نعيش فيها من تاريخ وطننا ، فإننا لم نكن نستطيع أن نغيّر هذه الظروف بجّرة قلم ، وكذلك لم نكن نستطيع أن نؤخر عقارب الساعة أو نقدمها ونتحكم في الزمن … وكذلك لم يكن في استطاعتنا أن نقوم على طريق التاريخ بمهمة جندي المرور فنوقف مرور ثورة حتى تمر ثورة أخرى ، ونحول بذلك دون وقوع حادث اصطدام ، وانما كان الشيء الوحيد الذي نستطيعه هو أن نتصرف بقدر الإمكان وننجو من ان يطحننا شقي الرحى !
وكان لابد أن نسير في طريق الثورتين معاً .
ويوم سرنا في طريق الثورة السياسية ، فخلعنا فاروق عن عرشه ، سرنا خطوة مماثلة في طريق الثورة الاجتماعية ، فقررنا تحديد الملكية .
وما زلت حتى اليوم اعتقد أنه ينبغي أن تظل ثورة 23 يوليو محتفظة بقدرتها على الحركة السريعة والمبادأة ، لكي نستطيع أن نحقق معجزة السير في ثورتين في وقت واحد مهما بدا في بعض الأحيان من التناقض في تصرفاتنا .
وحين جاءني واحد من أصدقائي يقول لي :
" أنت طالبت بالاتحاد لمواجهة الانجليز ، وانت في نفس الوقت تسمح لمحاكم الغدر أن تستمر في عملها " .
استمعت إليه .. وكانت في خيالي أزمتنا الكبيرة ، أزمة شقي الرحى :
ثورة تقتضينا أن نتحد صفاً واحداً وننسى الماضي .
وثورة تفرض علينا أن نعيد الهيبة الضائعة لقيم الاخلاق ولا ننسى الماضي !
ولم أقل لهذا الصديق : ان منفذنا الوحيد إلى النجاة أن نحتفظ – كما قلت – بسرعة الحركة والمبادأة ، وبالقدرة على ان نسير في طريقين في وقت واحد .
ولم أشأ أنا ذلك ، ولا شاءه كل الذين شاركوا في ثورة 23 يوليو .
ولكن القدر شاء ، وتاريخ شعبنا ، والمرحلة التي يمر بها اليوم .



الجزء الثاني

العمل الايجابي - الحماسة لاتكفي - الرصاص يتكلم
صراخ وعويل في الليل - ماأسهل ان يراق الدم
جذور في التاريخ - ياعزيز ياعزيز - الفولاذ ينهار
سوف يتبلور هذا المجتمع - أعصاب الناس وعقولهم
أغضبنا الجميع - هذه حدودنا وذلك واجبنا


ولكن ماالذي نريد ان نصنعه ؟
وما هو الطريق إليه ؟
الحق اني في معظم الأحيان كنت أعرف الاجابة على السؤال الأول وأخال اني لم أكن وحدي المنفرد بهذه المعرفة ، وإنما كانت تلك المعرفة أملاً انعقد عليه اجماع جيلنا كله .
اما الاجابة على السؤال الثاني " طريقنا إلى هذا الذي نريد " فأنا أعترف أنها تغيرت في خيالي كما لم يتغير شيء آخر ، واكاد اعتقد أيضاً أنها موضوع الخلاف الأكبر في هذا الجيل !
وما من شك في اننا جميعاً نحلم بمصر المتحررة القوية .. ذلك أمر ليس فيه خلاف بين مصري ومصري .
أما الطريق إلىالتحرر والقوة .. فتلك عقدة العقد في حياتنا .
ولقد واجهت تلك العقدة قبل 23 يوليو سنة 1952 . وظللت اواجهها بعد ذلك كثيراً حتى اتضحت لي زوايا كثيرة كانت الظلال تسقط عليها فتخفيها ، وبدت امام بصيرتي آفاق كان الظلام الذي ساد وطننا قروناً طويلة يلفها فلا أراها !
ولقد أحسست منذ انبثق الوعي في وجداني ، ان العمل الايجابي يجب أن يكون طريقنا .. ولكن أي عمل !
ولقد تبدو كلمة " العمل الايجابي " على الورق كافية لتحل المشكلة ، ولكنها في الحياة ، وفي الظروف العسيرة التي عاشها جيلنا وفي المحن التي كانت تنشب أظفارها في مقدرات وطننا ، لم تكن كافية !
وفي فترة من حياتي كانت الحماسة هي العمل الايجابي في تقديري .
ثم تغير مثلي الأعلى في العمل الايجابي وأصبحت أرى أنه لايكفي أن تضج أعصابي وحدي بالحماسة ، وإنما علي أن انقل حماستي كي تضج بها اعصاب الآخرين .
وفي تلك الأيام قدت مظاهرات في مدرسة النهضة ، وصرخت من أعماقي بطلب الاستقلال التام ، وصرخ ورائي كثيرون .. ولكن صراخنا ضاع هباء وبددته الرياح أصداء واهنة لا تحرك الجبال ولا تحطم الصخور .
ثم أصبح العمل الايجابي في رأيي أن يجتمع كل زعماء مصر ليتحدوا على كلمة واحدة ، وطافت جموعنا الهاتفة الثائرة ببيوتهم واحداً واحداً تطلب إليهم باسم شباب مصر أن يجتمعوا على كلمة واحدة … ولكن اتحادهم على كلمة واحدة ، كان فجيعة لايماني ، فإن الكلمة الواحدة التي اجتمعوا عليها كانت معاهدة 1936 .
***
وجاءت الحرب العالمية الثانية ، وما سبقها بقليل على شبابنا فألهبته وأشاعت النار في خلجاته، فبدأ اتجاهنا ، اتجاه جيل بأكمله ، يسير إلى العنف .
واعترف – ولعل النائب العام لا يؤاخذني بهذا الاعتراف – ان الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على انها العمل الايجابي الذي لامفر من الاقدام عليه إذا كان يجب ان ننقذ مستقبل وطننا .
وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت انهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله ، ورحت أفند جرائمهم ، وأضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم ، وعلى الأضرار التي ألحقتها بهذا الوطن، ثم أشفع ذلك كله بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم .
وفكرت في اغتيال الملك السابق وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا .
ولم اكن وحدي في هذا التفكير .
ولما جلست مع غيري انتقل بنا التفكير إلى التدبير .
وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام ، وما أكثر الليالي التي سهرتها أعد العدة للأعمال الايجابية المنتظرة .
كانت حياتنا في تلك الفترة كأنها قصة بوليسية مثيرة .
كانت لنا أسرار هائلة ، وكانت لنا رموز ، وكنا نستتر بالظلام وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل ، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به !
وقمنا بمحاولات كثيرة على هذا الاتحاد ومازلت أذكر حتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع في الطريق إلى نهايته .
والحق انني لم أكن في أعماقي مستريحاً إلى تصور العنف على أنه العمل الايجابي الذي يتعين علينا ان ننقذ به مستقبل وطننا .
كانت في نفسي حيرة ، تمتزج فيها عوامل متشابكة ، عوامل من الوطنية ومن الدين ومن الرحمة ومن القسوة ، ومن الايمان ومن الشك ، ومن العلم ومن الجهل …
ورويداً رويداً وجدت فكرة الاغتيالات السياسية التي توهجت في خيالي ، تخبو جذوتها وتفقد قيمتها في قلبي كتحقيق للعمل الايجابي المنتظر .
وأذكر ليلة حاسمة في مجرى أفكاري واحلامي في هذا الاتجاه ..
كنا قد أعددنا العدة للعمل .
واخترنا واحداً قلنا انه يجب أن يزول من الطريق .
ودرسنا ظروف حياة هذا الواحد ووضعنا الخطة بالتفاصيل .
وكانت الخطة أن نطلق الرصاص عليه وهو عائد إلى بيته في الليل .
ورتبنا فرقة الهجوم التي تتولى اطلاق النار ، ورتبنا فرقة الحراسة التي تحمي فرقة الهجوم ، ورتبنا فرقة تنظيم خطة الافلات إلى النجاة بعد تنفيذ العملية بنجاح .
وجاءت الليلة الموعودة وخرجت بنفسي مع جماعات التنفيذ .
وسار كل شيء طبقاً لما تصورناه .
كان المسرح خالياً كما توقعنا ، وكمنت الفرق في أماكنها التي حددت لها ، واقبل الواحد الذي كان يجب ان يزول ، وانطلق نحوه الرصاص …
وانسحبت فرقة التنفيذ ، وغطت انسحابها فرقة الحراسة ، وبدأت عمليات الافلات إلى النجاة ، وأدرت محرك سيارتي وانطلقت أغادر المسرح الذي شهد عملنا الايجابي الذي رتبناه .
وفجأة دوت في سمعي أصوات صريخ وعويل ، وولولة إمرأة ، ورعب طفل ، ثم استغاثة متصلة محمومة .
وكنت غارقاً في مجموعة من الانفعالات الثائرة ، والسيارة تندفع بي مسرعة .
ثم أدركت شيئاً عجيباً .
كانت الأصوات مازالت تمزق سمعي .
والصراخ والعويل والولولة والاستغاثة المحمومة .
لقد كنت بعدت عن المسرح بأكثر مما يمكن أن يسري الصوت ، ومع ذلك بدا ذلك كله كأنه يلاحقني ويطاردني .
ووصلت إلى بيتي واستلقيت على فراشي ، وفي عقلي حمى ، وفي قلبي وضميري غليان متصل .
كانت أصوات الصراخ والعويل والولولة والاستغاثة ما زالت تطرق سمعي .
***
ولم أنم طول الليل .
بقيت مستلقياً على فراشي في الظلام ، أشعل سيجارة وراء سيجارة ، وأسرح مع الخواطر الثائرة ، ثم تتبدد كل خواطري على الأصوات التي تلاحقني .
H أكنت على حق ؟
وأقول لنفسي في يقين :
- دوافعي كانت من أجل وطني !
H أكانت تلك هي الوسيلة التي لا مفر منها ؟
وأقول لنفسي في شك :
- ماذا كان في استطاعتنا أن نفعل ؟
H أيمكن حقاً أن يتغير مستقبل بلدنا إذا خلصناه من هذا الواحد أو من واحد غيره ، أم المسألة أعمق من هذا ؟
وأقول لنفسي في حيرة :
- أكاد أحس أن المسألة أعمق .
H اننا نحلم بمجد أمة ، فما هو الأهم : أيمضي من يجب أن يمضي ، أم يجيء من يجب أن يجيء؟
واقول لنفسي وإشعاعات من النور تتسرب بين الخواطر المزدحمة :
- بل المهم أن يجيء من يجب ان يجيء .. اننا نحلم بمجد أمة . ويجب أن يبنى هذا المجد ! .
وأقول لنفسي ومازلت أتقلب في فراشي في الغرفة التي ملأها الدخان وتكاثفت فيها الانفعالات : – واذن ؟
وأسمع هاتفاً يرد عليّ :
- وإذن ماذا ؟
وأقول لنفسي في يقين هذه المرة :
- إذن يجب ان يتغير طريقنا .. ليس ذلك هو العمل الايجابي الذي يجب ان نتجه إليه .. المسألة أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد اغوراً .
وأحس براحة نفسية صافية ، ولكن الصفاء ما يلبث أن تمزقه هو الآخر أصوات الصراخ والعويل والولولة والاستغاثة ، تلك التي ما زالت أصداؤها ترن في أعماقي .
ووجدت نفسي أقول فجأة :
- ليته لا يموت !.
وكان عجيباً أن يطلع عليّ الفجر ، وأنا أتمنى الحياة للواحد الذي تمنيت له الموت في المساء ! وهرعت في لهفة إلى إحدى صحف الصباح … واسعدني أن الرجل الذي دبرت اغتياله .. قد كتب له النجاة .
***
ولكن تلك لم تكن المشكلة الأساسية .
وإنما المشكلة الأساسية … هي العثور على العمل الايجابي !
ومنذ ذلك الوقت بدأ تفكيرنا الحقيقي في شيء أعمق جذوراً واكثر خطورة وأبعد أغواراً .
وبدأنا نرسم الخطوط الأولى في الصورة التي تحققت مساء 23 يوليو ، ثورة منبعثة من قلب الشعب ، حاملة لأمانيه ، مكملة لنفس الخطوات التي خطاها من قبل على طريق مستقبله .
ولقد بدأت هذا الحديث بسؤالين :
اولهما : ماالذي نريد ان نصنعه ؟
والثاني : وماهو طريقنا إليه ؟
وقلت : ان الاجابة على السؤال الأول أمل انعقد عليه الاجماع .
أما السؤال الثاني : طريقنا إلى الذي نريد أن نصنعه – فهو الذي أطلت فيه الكلام حتى وصلت إلى يوم 23 يوليو !
***
ولكن أكان الذي حدث يوم 23 يوليو هو كل ما نريد ان نصنعه !
المؤكد أن الجواب بالنفي ، فإن تلك لم تكن إلا الخطوة الأولى على الطريق .
والحق ان فرحة النجاح في 23 يوليو لم تخدعني ، ولم تصور لي أن الآمال قد تحققت ، وان الربيع قد جاء … بل لعل العكس هو الصحيح .
لقد كانت كل دقيقة تحمل إليّ انتصاراً جديداً للثورة ، تحمل إليّ في نفس الوقت عبئاً ضخماً ثقيلاً تلقيه بلا مبالاة فوق كتفي .
ولقد قلت في الجزء الول من هذا الحديث : " إني كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة ، وانها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها فتندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة زاحفة " .
وقلت : انني تصورت دورنا على انه دور الطليعة ، وكنت أتصور أنه لن يستغرق أكثر من بضع دقائق يلحق بنا بعدها زحف الصفوف المتراصة المنتظمة .
ورسمت أيضاً في ذلك الجزء صورة للخلافات والفوضى والاحقاد والشهوات التي انطلقت من عقالها في تلك اللحظات ، كل منها يحاول بأنانيته أن يستغل الثورة لتحقيق أهداف بعينها .
ولقد قلت وسأظل أقول أن تلك كانت أقسى مفاجأة في حياتي !
ولكن اشهد انه كان يجب أن اتوقع أن يحدث الذي حدث .
لم يكن يمكن أن نضغط على زر كهربائي فتتحقق أحلامنا .
ولم يكن يمكن في غمضة عين أن تزول رواسب قرون ومخلفات أجيال .
***
ولقد كان من السهل وقتها – ومازال سهلاً حتى الآن – ان نريق دماء عشرة أو عشرين أو ثلاثين ، فنضع الرعب والخوف في كثير من النفوس المترددة ونرغمها على ان تبتلع شهواتها وأحقادها وأهواءها .
ولكن أي نتيجة كان يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا العمل ؟
ولقد كنت ارى أن الوسيلة لمواجهة أي مشكلة من المشاكل هو ردها إلى اصلها ومحاولة تتبع الينبوع الذي بدأت منه .
وكان من الظلم أن يفرض حكم الدم علينا دون أن ننظر إلى الظروف التاريخية التي مرّ بها شعبنا والتي تركت في نفوسنا جميعاً تلك الآثار وصنعت منا ما نحن عليه الآن .
ولقد قلت مرة اني لا أريد أن أدعي لنفسي مقعد استاذ التاريخ ، فذلك آخر ما يجري اليه خيالي، وقلت أني سأحاول محاولات تلميذ مبتدىء في التاريخ .
***
لقد شاء لنا القدر أن نكون على مفرق الطرق من الدنيا .
وكثيراً ما كنا معبراً للغزاة ، ومطمعاً للمغامرين ، ومرت بنا ظروف كثيرة يستحيل علينا أن نعلل العوامل الكامنة في نفوس شعبنا إلا إذا وضعناها موضع الاعتبار .
وفي رأيي أنه لا يمكن اغفال تاريخ مصر الفرعوني ، ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا ، ثم غزو الرومان ، والفتح الاسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته .
وفي رأيي أيضاً أنه يجب التوقف طويلاً عند الظروف التي مرّت علينا في العصور الوسطى ، فإن تلك الظروف هي التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه الآن .
وإذا كانت الحروب الصليبية بداية فجر النهضة في أوروبا ، فقد كانت بداية عهود الظلام في وطننا .
فلقد تحمل شعبنا وحده معظم أعباء الحروب الصليبية وخرج بعدها فقيراً ، معدماً ، منهوك القوى .
وفي نفس الوقت الذي هدته المعركة فيه ، شاءت له الظروف ان يعاني الذل تحت سنابك خيول الطغاة القادمين من المغول والشركس …
كانوا يجيئون إلى مصر عبيداً فيفتكون بأمرائهم ويصبحون هم الأمراء .
وكانوا يساقون اليها مماليك فلا تمضي عليهم فترة في البلد الطيب الوديع حتى يصبحوا ملوكاً . وأصبح الطغيان والظلم والخراب ، طابع الحكم في مصر على عهدهم الذي عاشت مصر في مجاهله قروناً طويلة .
في تلك الفترة تحول وطننا الى غابة تحكمها وحوش ضارية . كان المماليك يعتبرونها غنيمة سائغة ، وكان الصراع الرهيب بينهم هو على نصيب كل منهم في الغنيمة . وكانت أرواحنا ، وثرواتنا ، وأراضينا ، هي الغنيمة !.
***
واحياناً حينما اعود إلى تقليب صفحات من تاريخنا ، أحس بالأسى يمزق نفسي ازاء تلك الفترة التي تكون فيها اقطاع طاغ ، لم يجعل له من عمل إلا مص دماء الحياة من عروقنا ، وأكثر من هذا ، سحب بقايا الاحساس بالقوة والكرامة من هذه العروق ، وترك في أعماق نفوسنا تاثيراً يتعين علينا أن نكافح طويلاً لكي نتغلب عليه …
والواقع أن تصوري لهذا التأثير يعطيني في كثير من الأحيان تفسيراً لبعض المظاهر في حياتنا السياسية .
أحياناً مثلاً يخيل إليّ أن كثيرين يقفون من الثورة موقف المتفرج الذي لا يعنيه من الأمر إلا مجرد انتظار نتيجة معركة يتصارع فيها طرفان لا تربطه بأيهما علاقة .
وأحياناً أثور على هذا الوضع ، وأحياناً اقول لنفسي ولبعض من زملائي :
لماذا لا يقدمون ، ولماذا لا يخرجون من المكان التي وضعوا فيها أنفسهم ، ليتكلموا ويتحركوا؟ ولا أجد تفسيراً لهذا إلا رواسب حكم المماليك .
كان الأمراء يتصارعون ، ويتطاحن فرسانهم في الشوارع ويهرع الناس إلى بيوتهم يغلقونها عليهم بعيدين عن هذا الصراع الذي لا دخل لهم فيه .
واحياناً يخيل إليّ اننا نلجأ إلى خيالنا نكلفه أن يحقق لنا في إطار الوهم ما نريده ، ونستمتع نحن بهذا الوهم ونقعد به عن محاولة تحقيقه .
ولم يتخلص كثيرون منا من هذا الشعور بعد ، ولم يهضموا أن البلد بلدهم وانهم سادته واصحاب الرأي والأمر فيه .
ولقد ظللت مرة أحاول أن أفهم عبارة كثيراً ما هتفت بها طفلاً صغيراً ، حينما كنت أرى الطائرات في السماء ..
لقد كنت اصيح : " ياربنا ياعزيز .. داهية تاخذ الانجليز " ..
ولقد اكتشفت فيما بعد اننا ورثنا هذه العبارة عن أجدادنا على عهد المماليك ، ولم تكن يومها منصبة على الانجليز ، وإنما حورناها نحن أو حورتها الرواسب الكامنة فينا والتي لم تتغير وان تغير اسم الظالم ، فقد كان اجدادنا يقولون :
" يارب يا متجلي .. اهلك العثمانلي ! " .
***
وبنفس الروح التي لم تتغير جرى المعنى على لساننا وان تغير اسم " الانجليز " باسم العثمانيين طبقاً للتغييرات السياسية التي توالت على مصر بين العهدين ..!
ثم ما حدث لنا بعد عهد المماليك ؟
جاءت الحملة الفرنسية ، وتحطم الستار الحديدي الذي فرضه المغول علينا ، وتدفقت علينا أفكار جديدة ، وتفتحت لنا آفاق لم يكن لنا بها عهد .
وورثت أسرة محمد علي كل ظروف المماليك ، وان حاولت أن تضع عليها من الملابس ما يناسب زي القرن التاسع عشر .
وبدأ اتصالنا بأوروبا والعالم كله من جديد .
وبدأت اليقظة الحديثة !
وبدأت اليقظة بأزمة جديدة ..
لقد كنا – في رأيي – أشبه بمريض قضى زمناً في غرفة مغلقة ، واشتدت الحرارة داخل الغرفة المغلقة ، حتى كادت أنفاس المريض تختنق …
وفجأة هبت عاصفة حطمت النوافذ والأبواب ، وتدافعت تيارات الهواء الباردة تلسع جسد المريض الذي مازال يتصبب عرقاً .
لقد كان في حاجة إلى نسمة هواء .. فانطلق عليه اعصار عات ، وانشبت الحمى أظافرها في الجسد المنهوك القوى .
هذا هو ما حدث لمجتمعنا تماماً ، وكانت تجربة محفوفة بالمخاطر !
كان المجتمع الأوروبي قد سار في تطوره بنظام ، واجتاز الجسر بين عصر النهضة في أعقاب القرون الوسطى إلى القرن التاسع عشر خطوة خطوة ، وتلاحقت مراحل التطور واحدة اثر أخرى .
أما نحن ، فقد كان كل شيء مفاجئاً لنا .
كنا نعيش داخل ستار من الفولاذ فانهار فجأة .
كنا قد انقطعنا عن العالم واعتزلنا أحواله ، خصوصاً بعد تحول التجارة مع الشرق إلى طريق رأس الرجاء الصالح فإذا نحن نصبح مطمع دول أوروبا ، ومعبراً إلى مستعمراتها في الشرق والجنوب .
وانطلقت علينا تيارات من الأفكار والآراء لم تكن المرحلة التي وصلنا إليها في تطورنا تؤهلنا لقبولها .
كانت أرواحنا مازالت تعيش في آثار القرن الثالث عشر ، وان سرت في نواحيها المختلفة مظاهر القرن التاسع عشر ، ثم القرن العشرين .
وكانت عقولنا تحاول أن تلحق بقافلة البشرية المتقدمة التي تخلفنا عنها خمسة قرون أو يزيد ، وكان الشوط مضنياً والسباق مروعاً مخيفاً .
***
وما من شك في أن هذا الحال هو المسؤول عن عدم وجود رأي عام قوي متحد في بلادنا ، فإن الفارق بين الفرد والفرد كبير ، والفارق بين الجيل والجيل شاسع .
ولقد جاء علي وقت كنت اشكو فيه من أن الناس لا يعرفون ماذا يريدون ، وأن اجماعهم لا ينعقد على طريق واحد يسيرون فيه ، ثم أدركت بعدها انني أطلب المستحيل ، وانني اسقط من حسابي ظروف مجتمعنا..
اننا نعيش في مجتمع لم يتبلور بعد ، وما زال يفور ويتحرك ولم يهدأ حتى الآن أو يتخذ وضعه المستقر ويواصل تطوره التدريجي مع باقي الشعوب التي سبقتنا على الطريق .
وانا أعتقد ، دون ان أكون في ذلك متملقاً لعواطف الناس ، ان شعبنا صنع معجزة ، ولقد كان يمكن أن يضيع أي مجتمع تعرض لهذه الظروف التي تعرض لها مجتمعنا ، وكان يمكن أن تجرفه هذه التيارات التي تدفقت علينا ، ولكننا صمدنا للزلزال العنيف .
صحيح اننا كدنا نفقد توازننا في بعض الظروف ، ولكننا بصفة عامة ، لم نقع على الأرض .
وأنا أنظر أحياناً إلى أسرة مصرية عادية من آلاف الأسر التي تعيش في العاصمة .
الأب مثلاً معمعم من صميم الريف .
والأم سيدة منحدرة من اصل تركي .
وأبناء الأسرة في مدارس على النظام الانجليزي .
وفتياتها على النظام الفرنسي .
كل هذا بين روح القرن الثالث عشر ومظاهر القرن العشرين ..
انظر إلى هذا وأحس في أعماقي بفهم للحيرة التي نقاسيها والتخبط الذي يفترسنا ، ثم أقول لنفسي :
- سوف يتبلور هذا المجتمع ، وسوف يتماسك ، وسوف يكون وحدة قوية متجانسة ، إنما ينبغي أن نشد أعصابنا ونتحمل فترة الانتقال .
تلك اذن هي الأصول التي انحدرت منها احوالنا اليوم ، وهذه هي الينابيع التي تجري منها ازمتنا ، فإذا أضفت إلى هذه الجذور الاجتماعية ، ظروفاً من أجلها طردنا فاروق ، من أجلها نريد تحرير بلادنا من أي جندي غريب – إذا اضفت هذا كله ، لخرجنا إلى الأفق الواسع الذي نعمل فيه ، والذي تهب عليه الرياح من كل ناحية ، وتزمجر في جنباته العواصف الهوج ، وتتوهج فيه البروق وتهدر الرعود ، والذي قلت انه من الظلم أن يفرض فيه علينا حكم الدم ، مع مراعاة هذه الظروف والملابسات .
وإذن ما هو الطريق ؟
وما هو دورنا على هذا الطريق ؟
أما الطريق فهو الحرية السياسية والاقتصادية .
واما دورنا فيه فدور الحراس فقط ، لا يزيد ولا ينقص .. الحراس لمدة معينة بالذات موقوتة بأجل .
وما أشبه شعبنا الآن بقافلة كان يجب أن تلزم طريقاً معيناً ، وطال عليها الطريق ، وقابلتها المصاعب ، وانبرى لها اللصوص وقطاع الطرق ، وضللها السراب ، فتبعثرت القافلة ، كل جماعة منها شردت في ناحية ، وكل فرد مضى في اتجاه ..
وما اشبه مهمتنا في هذا الوضع بدور الذي يمضي فيجمع الشاردين والتائهين ليضعهم على الطريق الصحيح ، ثم يتركهم يواصلون السير .
هذا هو دورنا ولا أتصور لنا دوراً سواه .
ولو خطر لي اننا نستطيع ان نحل كل مشاكل وطننا لكنت واهماً وانا لا أحب أن اتعلق بالأوهام.
اننا لا نملك القدرة على ذلك ، ولا نملك الخبرة لنقوم به .
انما كل عملنا ان نحدد معالم الطريق كما قلت ، وان نجري وراء الشاردين فنردهم إلى حيث ينبغي أن يبدأوا المسير . وان نلحق بالسائرين وراء السراب فنقنعهم بعبث الوهم الذي يجرون وراءه .
ولقد كنت مدركاً منذ البداية انها لن تكون مهمة سهلة ، وكنت اعلم مقدماً انها ستكلفنا الكثير من شعبيتنا .
لقد كان يجب أن نتكلم بصراحة ، وان نخاطب عقول الناس وكان الذين سبقونا قد تعودوا أن يعطوا الوهم ، وأن يقولوا للناس ما يريد الناس أن يسمعوه !
وما اسهل الحديث إلى غرائز الناس ، وما اصعب الحديث إلى عقولهم ..!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بناء مصر ..جمهورية يوليو الثائرة (الجمهورية الأولى) .. تأسيس النهضة الصناعية من الابرة للصاروخ

المخصيين بالتاريخ المصرى "حكاية حزينة من الماضي"

خيانات حرب يونيو 1967