حلقات تاريخ أمير الشهداء .. ابراهيم الرفاعى .. د اياد حرفوش
أمير الشهداء .. ابراهيم الرفاعى
أمير الشهداء .. ابراهيم الرفاعى
قائد المجموعة 39 قتال
من الألف إلى الياء
كما رواها د.إياد حرفوش ،عن تاريخ الشهيد ابراهيم الرفاعى:
الحلقة الأُولى : يوم فاض الغيظ دماً
الزمان: أغسطس ۱٩٦۳
المكان: موقع تمركز القوات المصرية على طريق صعدة-حرض، اليمن.
الراوي : إياد حرفوش
في ذلك اليوم الصيفي المطير، كانت القوات المصرية في طريق عودتها إلى مركزها الرئيسي في "حرض" شمالا، بعد أن انتهت من إخضاع وادي "مأرب" و"حريب" بمعاونة قوات الجمهوريين اليمنية، وكانت كتيبة الصاعقة تتحرك في مقدمة القوات كما كانت دائما خلال المعارك منذ وصولها لليمن، وكان اسم قائدها الرائد "إبراهيم الرفاعي" قد اقترن بالنصر والفتح في ذهن القوات المصرية، وكذلك بين قوات الجمهوريين اليمنيين، منذ معركة "العرقوب" قبل هذا اليوم بشهور. فقد استطاع خلالها أن يقلب حصار الملكيين للقوات المصرية وقوات الجمهوريين إلى حصار للملكيين أنفسهم، بعد أن اعتلى "الرفاعي" وجنوده المرتفعات، وحرم الأعداء من الحركة بمركباتهم، فقد تغلب بميزة الارتفاع على العيب الأساسي في قذائف "آر- بي- جي" الروسية القديمة من الجيل الثاني، والتي كانت محدودة المدى؛ وبلغ من تدمير قواته لمركبات العدو حد استخدامهم للجمال، وصعودهم على المدقات الجبلية للهروب من قذائف الصاعقة المصرية.
في الثانية عشرة في منتصف تلك الليلة الحارة من أغسطس، كان المساعد المشرف على طاقم حراسة الليل يسلي نفسه بالاستماع للراديو الصغير، والذي ضبطه على إحدى الإذاعات الناطقة بالعربية، والتي كانت بريطانيا تبثها من قاعدتها في "عدن". كان قد ضبط المذياع ليجعل صوته خفيضا كالهمس، فهو يعرف أن الرائد "الرفاعي" أصدر أوامره بعدم الاستماع لتلك الإذاعات، لكن المساعد الشاب فشل في التقاط أي إذاعة أخرى، وكان النوم في خلال وردية الحراسة أخطر من الاستماع لها .. أو هكذا ظن. حيث كانت الحراسة الليلية في حرب اليمن أكثر حيوية منها في غيرها، فقد كثرت الغارات الغادرة على أطراف المعسكرات ليلا، من قبل قوات الملكيين والمرتزقة البلغار، حيث كان من اكتروهم بالمال، ينفحونهم مبلغا محترما عندما يأتون بما يثبت اغتيالهم لجندي مصري، وكانت المكافأة تزيد لوكان ضابطا!!
كان يمسك جهاز الراديو في يده اليسرى، عندما صعقته قبضة حديدية تمسك بذراعه، وتستولي على الراديو في لحظة واحدة، التفت يسارا لتصطدم عيناه بعيني الرائد "إبراهيم" شخصيا، كان يواجهه بملامحه الصارمة التي تبدو منحوتة من صخرٍ حين يتجهم ويعقد ما بين حاجبيه. ارتعد المساعد الشاب رعدة هزت كيانه، لكنه لم ينطق ببنت شفة. خاطبه قائده، بصوت منخفض - لكنه يخترق أذنه وكيانه كله - قائلا:
بتكسر الأوامر وتسمع إذاعة عدوك؟
في اللحظة التالية، ودون أن يرفع "الرفاعي" عينيه عنه، كانت يده تضرب الصخرة القريبة بجهاز الراديو ليتفتت ألف قطعة تنتثر في الظلام. ثم يقول:
المرة دي كفاية كسر الراديو وخدمة زيادة، بكرة تريح برنجي وتقف حراسة كنجي وشنجي. لكن لو اتكررت ..إنت عارف
تمام يا أفندم .. أنا آسف يا أفندم.
استدار "الرفاعي" يمشي بقوامه الرياضي الرشيق مفتول العضلات نحو خيمته. كان العريف يتابعه بعينيه، فهل شعر بالغيظ المكتوم في تلك اللحظة من قائده؟ من يعرف علاقة "الرفاعي" برجاله يعرف أن حدود الغيظ في صدر الجندي هي نفس ما يمكن أن يشعر به الابن نحو والده حين يعنفه على التقصير.
كان "الرفاعي" حازما - بل قاسيا - خلال التدريبات، كما كان عسكريا من طرف رأسه لأخمص قدميه، يقدس الانضباط ولا يتهاون فيه؛ يلزم نفسه به قبل غيره. وكان صلب الرأي، لا يكون رأيا بسهولة، ولا يتراجع عنه بسهولة. لكنه في لحظات النار، في قلب المعارك، كان أبا للجميع بحق. كانت له قدرة عبقرية على التحرك في كل مكان خلال الاشتباكات، حتى كان يشعر كل رجل من رجاله أن "الرفاعي" خلفه يحمي ظهره. كان يتقدم قواته مهما كانت المخاطر؛ ويقوم بعمليات الاستطلاع في أدق المواقف بنفسه. كما لم يكن أبدا يترك من رجاله جريحا خلفه. كان "الرفاعي" هو خوفهم الأكبر في المعسكرات، لكنه كان أمانهم الأكبر في المعارك.
لكل هذا حزن العريف الشاب على مذياعه الذي تحطم للأبد، لكنه لم يكن ناقما على قائده، فهو قد شرح لهم من قبل خطورة سماع تلك الإذاعات التي تستهدفهم، وقد أنفقت عليها بريطانيا مئات الألوف لتبلبل عقولهم، حين تتحدث عن "الكفرة" الذين جاءوا من مصر، ليحاربوا الإمام "حفيد رسول الله" في أرض أجداده. كأن ثورة لم تقم في اليمن، ولم تطالب بإزاحة الأمير الذي كان يحتجز البلاد في القرون الوسطى، وكأن وفودا من الثوار الجمهوريين في اليمن لم تأت لمصر، تطلب من "عبد الناصر" التدخل، لا لمواجهة اليمنيين، وإنما لمواجهة من اكتراهم الملكيين بأموال الشعب من المرتزقة لقتال الشعب الثائر.
عندما دخل"الرفاعي" خيمته لم يستطع النوم، كان الجو حارا، وكان عقله مشغولا بترتيب تحركات القوات في اليوم التالي. لم تمر ساعة حتى كان الملازم "يوسف" من سلاح الإشارة يستأذن ليدخل خيمته، قام "الرفاعي" الذي كان ممدا بملابس الميدان فوق فراش من الحصير، ورد التحية للملازم الذي بدت ملامحه مربدة وهو يقول:
إشارة من تعز ياافندم.
أومأ "إبراهيم الرفاعي" برأسه مستعدا لتلقي الإشارة. لكن "يوسف" لم يتحدث، وبدا كمن يحاول أن يحرك شفتين لا تطيعان على الكلام. استنتج "الرفاعي" أن محتوى الإشارة أخبارا سيئة من قيادة العمليات الجنوبية في مدينة "تعز"، فشجعه قائلا بلهجة حازمة:
هات الإشارة يا ملازم "يوسف".
البقاء لله ياأفندم.
دق قلب أسد الميدان بعنف، في من يعزيه الضابط الشاب؟ شقيقاه "سامح" و"سامي" ضابطان ضمن قوات الجنوب؟!!! لم يخرج صوت "الرفاعي"، وهو يحرك رأسه متسائلا.
بصعوبة بالغة نطق"يوسف":
النقيب "سامح الرفاعي".
شعر "إبراهيم" بقلبه يسقط من صدره، وبخدر فاجأه في قدميه، تراجع خطوة للخلف ليجلس على صندوق خشبي كان يستخدمه في جانب الخيمة كمقعد .. إنه "سامح" .. شقيقه الأصغر، النقيب الشاب الذي التحق بالكلية الحربية من فرط حبه له، وطلب بنفسه المشاركة في حرب اليمن ليكون بقرب شقيقه الأكبر الذي كان قدوته الثانية بعد أبيهما.
مرت الدقائق ثقيلة، لم يتحرك في الخيمة شيء سوى عضلات وجه "إبراهيم"؛ التي كانت تتحرك في صدغيه متشنجة من فرط الألم. لمعت عيناه، فحدق بهما في سواد الليل الممتد أمام باب الخيمة، ليستوعب في اتساعهما دمعا عصيا، يرفض أن يسقط.
قام "إبراهيم" ومشى وهو لا يكاد يشعر بقدميه، فوقف عند باب الخيمة، ونطق أخيرا بسؤال واحد:
إيه اللي حصل؟
كان "يوسف" يعرف أن المعلومات القادمة ستزيد من ألم قائده، لكنه لم يملك غير قولها حين سأله:
الشهيد كان في مهمة ضمن قوات اتحركت من "تعز" لتطهير الساحل الجنوبي حوالين "لحج". كان فيه ترتيب مع واحد من شيوخ القبايل المتعاونة معانا يا افندم، لكن .. لكن .. شيخ القبيلة اشتغل لصالح المرتزقة البلغار. تم حصار فصيلة النقيب "سامح" في وادي ضيق شمال "لحج"، وفقدت معظم قواتها بقذائف المورتار الكثيفة.
قبض "إبراهيم" كفه اليمنى عند سماعه للعبارة التي دلت على شهادة شقيقه بخيانة الصديق، لا بمهارة العدو. شعر وكأن كفا من حجر تقبض على أحشائه. كانت الخيانات التي يحركها الذهب أكثر ما يكرهه في تلك الحرب، رغم إيمانه الكامل بحيويتها للأمن القومي لمصر، فقد كانت اليمن بثورتها تلك، وفي إطار الصراع القومي الذي خاضته مصر، تمثل موضع قدم للمد القومي والتقدمي في جنوب الجزيرة العربية، وعلى بوابة باب المندب، فتحجم من النفوذ البريطاني الممتد له من قاعدة عدن الجنوبية. لكن خيانات الذهب تلوث وجه الحرب، بقدر ما تطهرها وتزكيها تضحيات الأبطال ودماء الرجال!
حاول "يوسف" أن يقول شيئا يواسي به قائده، لكنه لم يكد يحرك شفتيه حتى سمع صوت "إبراهيم"، وكأنه يأتيه من قلب مرجلٍ يغلي وهو يقول:
سيبني لوحدي دلوقت يا "يوسف"
تمام يا أفندم .. البقية في حياتك.
خرج "يوسف". وبقي "إبراهيم" عند باب الخيمة يواجه الظلام وحيدا!! كم من الوقت مر به في وقفته تلك؟! هو نفسه لم يعرف أبدا، فقد كان شريط طويل من الذكريات يمر أمام عينيه. ود لو أنه تأوه طويلا ليخرج ما بصدره من نار تشتعل، لكن حنجرته لم تألف الآهات، فكانت نيران صدره تخرج بزفرات حارقة، فالزفرات أنين الأبطال!! لكن النار لا تهدأ، بل تزداد اشتعالا، تلتهب وتلتهب .. حتى شعر بطوفان من نار يجتاح أحشاءه ويندفع في صدره كأنه قذيفة مورتار. برد فعل انعكاسي مال للإمام قليلا، فاندفعت النيران من فمه!!
على الأرض رأى دمه يخالط الرمال، كأنه وهو بشمال اليمن يرسل إشارة وداع لشقيقه الأصغر الذي سال دمه على الرمال في جنوبها.. كانت القرحة التي أصابت معدته - في هذا اليوم الكئيب - تعلن عن نفسها. بعد ليلة طويلة قهره فيها الغيظ من خسة الخيانة، وهو من لم يتعود على القهر أبدا .. ففاض قهره وغيظه دما. أو كأن دم "إبراهيم" كره أن يبقى في عروقه، بعدما عرف أن دم شقيقه أسالته يد الغدر، فراح ينزف دماء جوفه بعمق الليل، وبغير جراح، غير جرح الفؤاد!
الحلقة الثانية : طعم الجراح
الزمان: ۳ يوليو ۱٩٦٧مالمكان: مكتب مدير المخابرات الحربية والاستطلاع، القاهرة
الراوي : إياد حرفوش
على طاولة الاجتماعات الملحقة بمكتب اللواء "محمد صادق"، مدير المخابرات الحربية والاستطلاع، جلس المقدم أركان حرب "إبراهيم الرفاعي" أمام مدير المخابرات الذي استدعاه لهذا الاجتماع. بعد حوار اجتماعي تقليدي لم يزد عن خمس دقائق، دخل اللواء "صادق" في صلب الموضوع:
عملية راس العش، والأثر النفسي الممتاز لصمودالكتيبة (٤۳) صاعقة، سواء في صفوف الجيش أو الجماهير، تؤكد على معنى واحد يا "إبراهيم": أول خطوات إزالة آثارالعدوان هي إزالة آثاره النفسية. لازم العدو يدوق طعم الجراح، واحنا ندوق حلاوة الانتصار، في اشتباكات محدودة. بكدة تستعيد القوات حماسها، ويستعيد الشعب ثقته في جيشه.
أكيد يا أفندم.
بالإضافة لكدة، صدر توجيه استراتيجي من الرئيس "جمال عبد الناصر" شخصيا، للفريق "فوزي" - وفي نفس يوم حلف اليمين - إن العدو مش لازم يرتاح في سينا. يعني: خطوات التدريب وإعادة البناء، لازم يصاحبها عمليات محدودة تحقق خسائر في أفراد ومعدات العدو، وتكسرالغرور والشعور بالأمان اللي حققه في يونيو.
تزايد اهتمام العقيد "الرفاعي" بعد هذا التقديم، وشعر بأنه استدعي لمهمة يشتاق إليها منذ ٥ يونيو، وينتظرها كما لم ينتظر شيئا في حياته من قبل. ينتظرها بحجم الإحباط الذي أصاب القلوب في يونيو، بحجم مرارة الهزيمة لجيش لم يمكنه قادته من الحرب كما يجب، ولم يطل انتظاره؛ حيث قال اللواء "صادق" مباشرة:
صدر القرار بإنشاء فرع للعمليات الخاصة يتبع المخابرات الحربية، وهياخد تعليماته مني شخصيا، ووقع الاختيار عليك كقائد الفرع ده، وتفويضك لاختيار العناصر المناسبة ليه من الصاعقة والبحرية وكل الأسلحة ..مع حرية كاملة في الاختيار.
لم يحاول "الرفاعي" أن يخفي السعادة التي طفت على ملامح وجهه، تلك الملامح شديدة المصرية. لمعت عيناه السوداوان بالعنفوان، وارتجف شاربه الأسود المنمق فوق شفتيه حماسا وتحفزا، وهو يقوم من مقعده ليؤدي التحية العسكرية لقائده، ويقول:
تمام يا أفندم، إن شاء الله هكون عند حسن ظنكم.
رد اللواء "صادق" التحية، ثم صافحه مهنئا، وأشار له ليجلس ثانية وهو يقول:
ده حقك يا "إبراهيم"، تقاريرك في حرب اليمن كلها بتقول إنك الأقدر على الدور ده، خصوصا إن عمليات المجموعة هتكون عمليات فدائية خلف خطوط العدو في سينا، يعني تقدر تقول إنه تكليف مش تشريف. مش محتاج أقولك إن الريس "عبد الناصر" شخصيا هيتابع معانا كل عمليات المجموعة دي، وده يعكس لك أهميتها في المرحلة الحالية.
أومأ برأسه موافقا، بينما استمر اللواء "صادق" يشرح الخطوط العامة لخطة القوات المسلحة في مواجهة العدو قائلا:
القيادة الجديدة للأركان حطت خطة للمواجهة الممتدة زمنيا مع العدو، بهدف استنزاف طاقته، لحد ما تكون قواتنا جاهزة للمواجهة المفتوحة على طول القناة، وبالتالي عملية العبور وتحرير سينا. الإسرائيلي دايما بيعتمد على الحروب الخاطفة علشان يتجنب الأثر الاقتصادي المدمر للتعبئة العامة الطويلة على اقتصاده، وهنا نقطة ضعفه. عشان كدة رسمت القيادة تلات مراحل لحرب الاستنزاف دي: مرحلة الصمود أمام أي تحركات للعدو، ودي بدأت بالفعل في راس العش في أول يوليو. بعد مرحلة الصمود هتيجي مرحلة الدفاع النشط بعمليات موسعة، وأخيرا مرحلة الردع اللي هتاخد فيها مصر زمام المبادرة دايما، بعمليات في العمق في سينا، وتحاصر العدو في نطاق رد الفعل على عملياتها المتكررة.
كان "الرفاعي" يتابع باهتمام عندما سكت اللواء "صادق" لحظة، ثم تابع قائلا:
دور مجموعتك يا "إبراهيم" هيكون هو الاستثناء الوحيد من المراحل التلاتة دي، علشان كدة المجموعة هتكون تابعة لينا في المخابرات الحربية مش لهيئة العمليات، لأن دوركم من اليوم الأول .. هيكون الردع. وده هياخدنا للكلام عن المهمة الأولى.
قالها وهو يفرد خريطة عسكرية على الطاولة، ويشير لموقع محدد شرق البحيرات المرة، وهو يقول:
هنا.
المكان: الضفة الشرقية لقناة السويس
الراوي : إياد حرفوش
تمت أولى عمليات "فرع العلميات الخاصة التابع للمخابرات الحربية" بنجاح باهر. كانت المعلومات قد وصلت للقيادة السياسية بأن إسرائيل جمعت غنائم الذخيرة والعتاد العسكري المصري، والتي تركتها القوات في صحراء سيناء، بعد انسحابها في يونيو، وخزنتها إسرائيل في ثلاث مخازن شرق البحيرات المرة في سيناء، حيث اعتقد العدو أن البحيرات المرة، وهي أوسع مناطق القناة، تشكل مانعا طبيعيا وتحصينا لتلك المخازن، ضد عبور أي قوات كوماندوز مصرية. كذلك أفادت المعلومات أن العدو ينوي تصوير فيلم تسجيلي لهذا العتاد، وعرضه في مؤتمر صحفي دولي، وهو ما يهدف بطبيعة الحال لكسر كبرياء الجيش المصري، وزيادة التدهور في حالته المعنوية. قرر الرئيس "جمال عبد الناصر" إرسال مجموعة من الفدائيين لعمق سيناء، لتدمير هذا العتاد. وأسند اللواء "صادق" هذه المهمة لفرع العمليات الخاصة الذي كلف بإنشائه المقدم "إبراهيم الرفاعي". وكان إسناد المهمة في نفس يوم تكليفه بإنشاء مجموعة العمليات، لهذا تمت المهمة على يد أربعة أفراد فقط، يقودهم "الرفاعي" بنفسه.
وفي مساء يوم ٤ يوليو عبر الرجال الأربعة قناة السويس عند أكثر نقاطها اتساعا، وتسللوا لمخازن السلاح وقاموا بتلغيمها بمتفجرات. قبل أن يغادروا الموقع ويعودوا جميعا سالمين. وبعد أقل من ساعة ارتجت سيناء كلها بانفجار الكم الضخم من العتاد والذخيرة المكدسة. وقضي على سرية القوات الخاصة الإسرائيلية التي كانت تحرس المخازن بأكملها.
لم تمر أيام حتى كانت المجموعة تعبر من جديد، لتقوم بتلغيم شريط القطار الحربي الإسرائيلي عند الشيخ زويد، في أبعد نقطة داخل سيناء وقرب الحدود مع رفح، وتمت العملية بنجاح باهر، وسمع الأبطال صرخات ضباط وجنود الصهاينة تلي صوت الانفجار، بينما كانوا هم في رحلة العودة سالمين موفورين. وتلقى قائد المجموعة "الرفاعي" خطابا من الفريق "فوزي" وزيرالحربية يشكره فيه على ما حقق من إنجاز. وتوالت العمليات بنجاح، وتضاعف عدد أفراد مجموعة القوات الخاصة التي يقودها.
حتى كان ذلك اليوم في نوفمبر ۱٩٦٧م، عندما استدعاه اللواء "صادق" للقاء في مكتبه، وعندما وصل أخبره أن الفريق "عبد المنعم رياض" رئيس الأركان في الطريق، ليشترك معهما في الاجتماع. عند وصوله، كانت أول كلمة قالها الفريق "رياض" بعد تبادل التحيات هي:
السبب الأول لاجتماعنا النهاردة هو إني أنقل ليك تحية وتقدير الرئيس "جمال عبد الناصر" شخصيا، والسبب التاني هو ده ..
قالها الفريق "رياض" وهو يخرج من مظروف أصفر، عددا من الصور الفوتوغرافية الملتقطة عن بعد لراجمة صواريخ. لم تكن أنظمة راجمات الصواريخ - والتي يتم إطلاقها عن بعد بدائرة كهربية - سلاحا معروفا أو واسع الانتشار في هذا الزمان، لهذا علق الفريق "رياض" بقوله:
منصات الصواريخ دي تم نشرها على طول الضفة الشرقية للقناة، وإنت فاهم خطورة ده طبعا، وأهمية تحديد إمكانياتها وطريقة التعامل معاها في خطة العبور اللي بنحطها. المشكلة إن الروس مقدروش يحددوا طبيعة السلاح ولا خواصه من الصور دي.
والمطلوب؟
عاوزك تجيب لي صاروخ من دول يا "رفاعي". علشان نقدر نفهم السلاح الجديد ونجهز خطة للتعامل معاه.
أمسك "الرفاعي" الصورة بيديه وأخذ يتأملها، وهو يفكر في كيفية الحصول على صاروخ من هذه المنصة التي تبدو معقدة. بينما استأنف الفريق يقول:
استعين بأفضل عناصر الضفادع البشرية من البحرية، وضمها لمجموعتك. المهم تنجح في المهمة دي.
اعتبر الصاروخ عندك يا افندم.
أنا متأكد يا سيادة العقيد.
لاحظ "الرفاعي" أن الفريق خاطبه برتبة "عقيد"، لكنه لم يعر الأمر اهتماما لأنه كان يفكر بالمهمة الصعبة التي تنتظره مع رجاله. كانت المشكلة في كيفية الحصول على العينة المطلوبة دون أن يشعر العدو بفصل دائرة التحكم الكهربية في الصواريخ، فيبدأ في الاحتياط أو تشديد الحراسة عليها؟
في طريقه لمنزله، مر "الرفاعي" على مكتبة دار المعارف، وحصل على الكتاب الذي يريده عن مباديء الكهرباء والدوائر الكهربية.
وفي ليلة ۱۳ نوفمبر ۱٩٦٧م، عبر "الرفاعي" - ومعه ثلاثة من عناصر الضفادع البشرية - قناة السويس سباحة للضفة الشرقية، وتسللوا تحت جنح الظلام لموقع واحدة من راجمات الصواريخ. وبرغم المخاطرة الكبيرة في التعامل مع سلاح غير معروف الهوية، طبق "الرفاعي" القاعدة التي قرأ عنها. فقام بتتبع الأسلاك حتى وصل للدائرة الكهربية التي تتحكم في صواريخ تلك الراجمة، وقام بتعرية الأسلاك وتوصيل سلك إضافي يفصل تلك الراجمة عن دائرة التحكم الرئيسية.
لم يكن واثقا من نتيجة عمله، لهذا أشار بيديه لزملائه الثلاثة ليبتعدوا عن الراجمة باتجاه الماء، ومد يده بقاطع الأسلاك للسلك المتصل بقاعدة أحد الصواريخ. تمتم ببعض آيات القرآن وهو يضغط ليقطع السلك، وعندما سمع .. "تك" .. توقفت أنفاسه للحظات ينتظر النتيجة. استمر الصمت فعرف أن فكرته قد نجحت، فأشار لزملائه بعلامة النصر بأصابعه، وكرر ما فعله مرتين، لتحمل المجموعة في طريق عودتها ثلاثة صواريخ بدلا من واحد حددته المهمة. حمل الزملاء الصواريخ الثلاثة وطلب منهم أن ينزلوا للقناة ويبدأوا رحلة العودة. أما هو فاتجه لمكان السلك الإضافي الذي وضعه في الدائرة وأعاد كل شيء كما كان. ثم توجه للقناة عائدا.
لم تمر ٤٨ ساعة حتى كان الروس قد حللوا إمكانيات الصواريخ التي حصلوا عليها، وفهموا فكرة الراجمات التي بدأت الولايات المتحدة في تصنيعها وإمداد إسرائيل بها، فكان أمر القيادة هو تدمير هذه الراجمات. لكن "الرفاعي" كان له رأي آخر!
اقترح "الرفاعي" عكس اتجاه تلك الصواريخ، على طول خط القناة، وتعديل زاوية الميل، لتصبح متجهة نحو خطوط العدو، وإطلاقها باستخدام دائرة كهربائية خارجية يتم توصيلها. وهو ما قام به فعلا، بعد موافقة القيادة.
هكذا تم أول هجوم كثيف بالنيران على طول المواجهة تعرضت له إسرائيل بعد نكسة يونيو. تم براجماتها هي، وبالصواريخ التي أمدتها بها الولايات المتحدة. وبيد أربعة من الضفادع البشرية فقط. الأمر الذي كبدها خسائرا فادحة في الأفراد والمعدات، وعرضها للوم عنيف من وزارة الدفاع الأمريكية، لأنها لم تتمكن من الحفاظ على سر السلاح الجديد، وسمحت لعدوها بمعرفته، بل والتحكم فيه، وضربها به. لهذا كله سحبت إسرائيل السلاح من الضفة الشرقية للقناة بالكامل، ولم تستخدمه فيما تلى ذلك من مواجهات، حتى في معارك العبور.
بعد إتمام المهمة، عرف العقيد "إبراهيم الرفاعي" لماذا خاطبه الفريق "رياض" بهذه الرتبة، حين فاجأته الترقية الاستثنائية الثانية في تاريخه، وكانت الأولى بعد حرب اليمن، وقد جاءته الترقية هذه المرة مع أول وسام نجمة عسكرية يحصل عليه.
وتوالت العمليات بنجاح، وذاق جنود العدو طعم الموت والجراح، حتى كانت العملية التي صرخ على إثرها "موشي ديان" منفعلا في مكتبه. عملية كمين جبل مريم.
في مساء ۲٥ أغسطس ۱۹٦٨م، لم يكن الكمين الذي أعده الرفاعي ورجاله الأول من نوعه، فقد قاموا خلال العام الماضي من عملهم بعدة كمائن، وكبدوا العدو فيها خسائرا كبيرة في الأفراد والمعدات، فضلا عن فقد جنود العدو لأدنى شعور بالمنعة والأمان وهم يتحركون في سيناء. لكن كمين "جبل مريم" كان أول كمين يشهد أسر جندي إسرائيلي بيد الأبطال.
كان الصهاينة قد بدأوا في تقليد فكرة خط ماجينو الفرنسي، والذي حصنت به فرنسا حدودها مع ألمانيا عام ۱۹۳۰م، فقد اقترح الجنرال "حاييم بار-ليف" إنشاء خط من النقاط الحصينة على طول الضفة الشرقية لقناة السويس، وبدأ التنفيذ فورا. ورصدت القوات المصرية دورية استطلاع إسرائيلية تأتي من العمق حتى منطقة جبل مريم – قبالة الإسماعيلية – يوميا، للإشراف على عمليات بناء النقاط الحصينة، وكانت مكونة من سيارتي جيب. رسم "الرفاعي" الخطة، وكلف الرائد "أحمد رجائي عطية" بقيادة القوات التي ستنفذ العملية. فقد كان يعود رجاله على العمل بدونه في بعض العمليات، ويقول لهم دائما "القائد هو اللي يسيب وراه عشرة ينفعوا قادة لما يموت".
في البداية عبرت سرية الاستطلاع مكونة من "عبد المنعم غلوش" و"ماجد ناشد" و"هنيدي مهدي"، لتأمين منطقة العمليات، وفي حوالي التاسعة مساء، أعطوا الإشارة الضوئية المتفق عليها لمجموعة التنفيذ المرابطة على الضفة الغربية، فتحرك الأبطال بقارب الزودياك، يحملون معهم ستة ألغام أرضية مضادة للدبابات، فلغموا الطريق المار بمنطقة جبل مريم حيث تمر السيارتان كل يوم، وكمنوا بعدها خلف الكثبان الرملية المحيطة. وفي تمام الساعة التاسعة والنصف مساء. ظهرت أنوار السيارتين، ولم تمر لحظات حتى كان اللغم الأول ينفجر في أولاهما، فظهر الأبطال من خلف التلال يمطرون السيارة الثانية بوابل من قذائف الآر بي جي، وتطايرت أشلاء جنود العدو في الهواء، وبعدما خمدت نيران العدو، أطلق النقيب "إسلام توفيق" طلقة كاشفة أضاءت المكان للحظات، فرأى أحد جنود العدو حيا بعد إصابته، كانت سعادتهم بأسره غامرة، كانوا يعرفون أن أسره يعني الحرية لعدد كبير من أسرى حرب يونيو، يعود كل منهم لأهله وبيته.
حمله البطلان "سمير نوح" و"عادل فليفل" نحو قارب الزودياك، يتبعهما الرائد "رجائي عطية" والنقيب "إسلام توفيق" ليؤمنا وصولهما للقارب بالصيد الثمين. وعندما أبلغوا "الرفاعي" بالصيد الثمين كانت فرحته به غامرة، وكان في انتظارهم في مبنى المخابرات الحربية فور عودتهم، ومعه اللواء "صادق"، والذي أخبرهم في ذات الليلة بمنح الرئيس "عبد الناصر" لكل منهم نوط الجمهورية .
الحلقة الرابعة : البطل و ... بطلُه
الزمان : 21 يوليو 1970المكان: غرفة مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، بمنزله في منشية البكري.
الراوي : إياد حرفوش
أمس، تلقى العقيد "إبراهيم الرفاعي" مكالمة هاتفية من اللواء "صادق" يبلغه فيها بأنه مدعو للقاء الفريق "فوزي" في مكتبه في السابعة والنصف من مساء الغد، لأمر هام. توجس "الرفاعي" من تلك المقابلة، فقد كان الكلام يدور في صفوف الجيش عن قبول مصر لمبادرة وقف إطلاق النار لمدة ثلاث شهور. فهل سيخبره القائد العام بتوقف مجموعته لهذه الشهور الثلاث؟ حالة الحماس المتصلة التي تعيشها المجموعة، هي أهم أسلحتها على الإطلاق. واتصال النضال هو ما يحفظ شعلة الحماس تلك!
في الموعد المحدد كان "الرفاعي" يقف عند بوابة وزارة الحربية، ويبلغ جندي الحراسة بالموعد. وجد تعليمات عند الجندي بأن يبلغ الفريق "فوزي" تليفونيا فور قدوم "الرفاعي"، وطلب منه الجندي بأدب أن يتفضل معه، حيث قاده لسيارة وزير الحربية. أدى له السائق التحية العسكرية وهو يفتح له الباب الخلفي. لكن لماذا السيارة؟ إلى أين يذهبون في هذا الموعد الليلي؟
لم تمر خمس دقائق حتى كان السائق يفتح الباب المقابل ليركب الفريق أول "محمد فوزي" بجواره، وهو يقول:
معلش يا "إبراهيم"، معندناش وقت، علشان كدة مقدرتش أرحب بيك في المكتب الأول.
ولا يهمك يا افندم، بس احنا رايحين فين؟
منشية البكري. الريس عايزك يا "إبراهيم"، ومعادنا الساعة تمانية بالظبط.
قالها الفريق "فوزي" بطريقة طبيعية تماما، وهو يعطي الأمر للسائق بالانطلاق. بينما انطلقت الانفعالات في صدر "إبراهيم".
الرئيس "جمال عبد الناصر" يريد لقاءه شخصيا؟!! هزت المفاجأة كيان القائد الذي لم تهز المعارك قلبه. لقاء مع "عبد الناصر"؟!! وفي منزله! وفي هذا الوقت تحديدا؟ الوقت الذي تتردد فيه أقوال عن قبول "عبدالناصر" لمبادرة روجرز، ما هو سبب المقابلة؟ ولماذا في المنزل؟
قدر ما كان مشتاقا لهذه المقابلة قدر ما تضاربت المشاعر بداخله الآن، فلو كان رجاله يعتبرونه بطلا وقدوة، فهو يعرف جيدا من هو بطله وقدوته، إنه "عبد الناصر" نفسه. الرجل الذي هزم الهزيمة، وانكسر على صخرة عزيمته الانكسار. الرجل الذي قام بعد ضربة يونيو القاصمة، قام مشدود الزمام، يقسم على النضال وتصحيح كل الأخطاء، حتى تحول العزم لحقيقة يعيشونها ويعيشها العدو على الجبهة كل يوم في حرب الاستنزاف، الحرب التي تقترب الآن من ألف يوم!!
قبل الثامنة بدقائق كان الفريق "فوزي" والعقيد "الرفاعي" يجلسان في الصالون المقابل لمكتب الرئيس "عبد الناصر". أخذ "الرفاعي" يتأمل الغرفة البسيطة التي شهدت صناعة أخطر القرارات في تاريخ مصر المعاصرة. ثم جاءت القهوة التي طلباها وجاء معها فنجان ثالث، وضعه النادل أمام الفوتيه المقابل لهما.
لم يطل الانتظار. فتح الباب ودخل الرئيس. أقبل مبتسما ابتسامته الودودة الواسعة التي تكشف ثناياه، تحرك نحوهما بخطواته الثابتة وهو يقول بصوته المميز:
يا أهلا بأبطالنا.
قام القائدان يؤديان التحية العسكرية للرئيس، بينما مد الرئيس يده مصافحا الفريق "فوزي"، وهو يقول:
أهلا يا "فوزي".
ثم اتجه بكفه الممدودة ليصافح يد "الرفاعي"، وفاجئته يده الثانية وهو يسحب كتفه نحوه ليعانقه، ثم ينظر في عينيه مليا، وهو يقول:
نورت منشية البكري يا بطل، فضلت إننا نتقابل هنا، بعيد عن الصحافة والإعلام، علشان الصهاينة بالفعل مركزين معاك إنت ومجموعتك، ومستهدفينك شخصيا، ومش عاوز أزود الاستهداف .. اللقاء ده اتأخر كتير، بس إنت عارف.
كان الله في العون يا افندم. وبعدين حضرتك لبستنا الأنواط أنا والمجموعة بإيدك بعد عملية "جبل مريم"!
أنا بتكلم عن اللقاء الشخصي ده يا "إبراهيم". إنت مش قائد ميداني عادي علشان نتقابل بس وأنا بلبسك نوط أو وسام، إنت "إبراهيم الرفاعي".
كانت يسراه مازالت فوق كتف "الرفاعي" فهزه تشجيعا وهو يقول:
- إنت سلاحي اللي رديت بيه الوجع للصهاينة بعد ٥ يونيو.
ظلت هذه الكلمة تتردد في رأس البطل حتى النهاية، دائما يسمعها بصوت "عبد الناصر"، وهو مقبل على كل عملية جديدة بعدها. كانت أعز عنده من كل أوسمته وأنواطه!
جلس الرئيس على الفوتيه المقابل لهما، وطلب منهما الجلوس بيده وهو يقول:
إن شاء الله هقابل كل أبطال المجموعة ۳٩ قتال، وأشكرهم بنفسي واحد واحد.
أكيد ده هيكون دافع كبير ليهم يا افندم.
هكذا أجاب "إبراهيم" وهو ينظر لوجه الرئيس. لقد رآه من قبل في الجبهة أثناء الزيارات الميدانية، وبعدها يوم تقليدهم الأنواط، لكن اليوم كان اللقاء مختلفا، فهو عن قرب، وليس وسط الجموع. بعد اللقاء حاول "الرفاعي" كثيرا أن يتذكر بعض التفاصيل التي أحاطت باللقاء، ما هو لون بدلة الرئيس ورابطة عنقه مثلا؟ لم يستطع، إنه الحضور الطاغي الذي لا تذكر معه إلا وجه الرئيس وعيناه. من تحدثوا عن صعوبة النظر لعينيه كانوا يقصدونها في وقت التجهم، أما عندما يكون مبتسما، فكانت عيناه آسرتان بحيث لا ترى غيرهما. كان الشيب بعد النكسة قد غيب معظم سواد شعره رغم أنه في مطلع الخمسينات، لكن قوة عينيه بقيتا كما كانت قبلها، عينان متقدتان بخليط العزم والكبرياء.
رشف الرئيس من فنجان قهوته قبل أن يتجه نحوه بالحديث قائلا:
إنت عارف يا "إبراهيم" إن وضعنا الاستراتيجي اتحسن كتير خلال الشهور اللي فاتت، واعتبارا من مايو تحديدا. ساعدنا على ده، إن بعد زيارتي لموسكو في مارس، ربنا قدرنا ووصلت بطاريات صواريخ الدفاع الجوي سام-۳ ، وكمان ست أسراب من الميج ۲۱ جي إس، عشان كدة الرجالة في الطيران قدروا يوجعوا إسرائيل جدا لما حاولت تهدد العمق، وترد على عملياتكم الناجحة في سينا.
تمام يا أفندم.
عاد الرئيس بظهره للخلف مستندا على مسند الفوتيه، ومالت رأسه لليسار قليلا كعادته عندما يتحدث في موضوع هام. وقال:
وعارف كمان إني رفضت مشروع "روجرز" لتسوية منفردة مع مصر، على أساس إننا ناخد سينا من غير حرب، ونخرج من القضية العربية، فخرجت وقتها في خطاب وقلت: القدس قبل سينا، والجولان قبل سينا. وبعدين .. في .. ۱٩ يونيو اللي فات، المستر "روجرز" طرح علينا مبادرة جديدة، بوقف إطلاق النار ۳ شهور.
وحضرتك لم تعلن قبولها رغم مرور أكتر من شهر، وكمان إسرائيل لم تعلن قبول ولا رفض، التصريحات اللي رفضت خرجت من أطراف غير رسمية في تل أبيب.
هكذا أجاب "إبراهيم"، وهو يتمنى في داخله ألا يكون الحديث بمناسبة قبول المبادرة. هنا علق الفريق "فوزي" قائلا:
- إسرائيل هي اللي طالبة الهدنة يا "إبراهيم"، "روجرز" مش عاملها من راسه. لكنهم منتظرين موقفنا قبل ما يعلنوا موقفهم.
- تمام كدة.
قالها "عبد الناصر" مصدقا على كلام "فوزي"، قبل أن يستأنف كلامه:
- أنا طلبت أقابلك النهاردة يا "إبراهيم"، علشان أقولك إني قررت أقبل مبادرة "روجرز". واتفقت مع "فوزي" إني أعلن ده في خطاب عيد الثورة اللي جاي، بعد بكرة. متوقع إن إسرائيل تعلن موافقتها بعدها، ومتوقع بالتالي إن وقف إطلاق النار يسري بداية من الأسبوع الأول من أغسطس.
لم يستطع "إبراهيم" أن يتغلب على الوجوم الذي كسا وجهه، ونظر نحو الرئيس وهو يتطلع لتفسير، دون أن يعلق. ابتسم الرئيس وهو ينظر إليه، ويقول:
- أنا عارف كويس شعور المقاتل اللي جواك دلوقت. لكن إنت كمان قائد، والقائد يعرف إمتى يضرب وإمتى يقف وقفة تعبوية.
- لو سمحت لي يا ريس، هل السبب هو استكمال بناء منظومة الدفاع الجوي؟
- إحنا أشعنا كدة فعلا، حتى جوة الجيش، لكن الحقيقة اللي "فوزي" و"صادق" عارفينها كويس، إننا انتهينا بالفعل من بناء حائط صواريخ سام-۲ وسام-۳، ودلوقت الطيران الإسرائيلي معادش يقدر يطير بحرية فوق القناة أو الضفة الغربية. مش دي المشكلة يا "إبراهيم".
مال الرئيس بجزعه للأمام مقتربا منه، وهو يعقد كفيه أمامه ويقول بصوت هاديء، وبنبرة تدل على أهمية ما يقول .. وسريته:
- يا "إبراهيم" .. احنا قريبين قوي من يوم المواجهة، أول ما يكمل وصول شحنات السلاح والمقاتلات الروسية الجديدة. العبور يقتضي إننا نأمن قواتنا اللي هتعبر للضفة الشرقية، وبالتالي لازم نحرك منظومة الصواريخ لأقرب نقطة ممكنة على الضفة الغربية. لأن دورها مش هيقتصر ساعة المواجهة على حماية العمق، هيصبح دورها هو حماية القوات اللي هتعبر، على الأقل لمسافة عشرة كيلومتر داخل سينا، علشان الطيران يقدر يركز على مساحة أقل يأمنها في عمق سينا، من الكيلو ۱۰ لحد خط المضايق.
نزلت هذه العبارة بردا وسلاما على قلبه من ناحية الهدف العام، فيوم العبور اقترب بالفعل إذا. لكنه من ناحية أخرى لا يعرف كيف ستمر الشهور الثلاثة دون عمليات في سيناء. كانت الحيرة ظاهرة على وجهه عندما قال الفريق "فوزي":
- لو سمحت لي يا ريس .. الريس عنده مفاجأة تانية ليك يا "إبراهيم"، هتحل لك مشكلة وقف إطلاق النار.
هز "عبد الناصر" رأسه موافقا، وهو يقول:
- إنت ورجالتك هتكملوا رغم وقف إطلاق النار. بس من غير البدلة العسكرية والرتب. في شكل منظمة مقاومة شعبية للاحتلال. المخابرات الحربية رتبت بالفعل مع أبناء منطقة القناة وبعض قبايل سينا، واللي هتوفر لكم الغطا اللي تشتغلوا من خلاله. "فوزي" و"صادق" هيتكلموا معاك في كل التفاصيل. أنا قابلتك النهاردة مخصوص علشان عاوز عزيمتك وعزيمة الرجالة تفضل زي ما هي، رغم إعلان وقف إطلاق النار.
انفرجت أسارير "إبراهيم"، وعادت الابتسامة لوجهه للمرة الأولى منذ سمع عبارة قبول المبادرة. قام الفريق "فوزي" يستأذن في انصرافهما وهو يقول:
- هنتكلم مع "صادق" في مكتبه بكرة الصبح في كل التفاصيل. خدنا من وقتك كتير يا ريس.
- شرفتوني
ثم يتجه الرئيس مصافحا البطل "الرفاعي"، ويبتسم وهو يحرك سبابة يسراه منبها بود:
- عزيمة الرجالة يا "إبراهيم". عاوزهم ياكلوا العدو مش بس يدبحوه زي يوم لسان التمساح .. الله يرحم الفريق "رياض"، كان نفسي يبقى معانا في المواجهة الكبيرة علشان يجني اللي زرعه معاكم .. لكن .. الأعمار بيد الله.
- بمناسبة لسان التمساح، احنا آسفين يا ريس لوكنا سببنا مشكلة في الأمم المتحدة
- ادبح الصهاينة براحتك، وسيب الأمم المتحدة علي أنا.
هكذا ذكر الرئيس تضحية الفريق "رياض"، رئيس الأركان الذي استشهد على خط النار في ٩ مارس ۱٩٦٩م. فعبر "الرفاعي" ومجموعته يوم ذكرى الأربعين: يوم ۱٩ أبريل، ليدمروا موقع المعدية رقم ٦ على لسان التمساح، والتي أطلقت القذيفة على الفريق الشهيد، ويذبحوا أفرادها بسونكي الكلاشينكوف، ثم يحولوا دشمها الثلاثة إلى كتلة لهب. وهو ما دفع إسرائيل للتقدم بشكوى للأمم المتحدة لاعتبارهم أسلوب الذبح بالسونكي تمثيلا بالجثث.
لم يكن الرئيس "جمال عبد الناصر" يعلم وهو يذكر "رياض" ويتمنى لو كان حيا، أنه هو نفسه لن يجني ما زرعت يداه، وسوف يلاقي ربه، في غضون أقل من شهرين من هذا اللقاء. بعد أن فتح الطريق أمام المجموعة ۳٩ قتال لنضال جديد، برغم وقف إطلاق النار، وتحت اسم وشكل جديد، هو .. منظمة سيناء العربية.
المكان: في رحلة العودة بعد لقاء الرئيس
الراوي : إياد حرفوش
طلب الفريق "فوزي" من السائق أن يوصل العقيد "الرفاعي" إلى حيث يريد، بعد أن عاد هو لمكتبه في وزارة الحربية. عندما انفرد "الرفاعي" بنفسه، أراح رأسه على نافذة السيارة وأخذت الأفكار تتوالى على ذهنه المتقد. فأحداث اليوم كانت كثيرة وكبيرة. لقاء الرئيس "جمال عبد الناصر" في منزله، وحديث معه امتد لأكثر من ساعة .. انتهاء العمل منذ اليوم بالاسم الذي كان أهم ما بحياته خلال السنوات الأربعة الماضية: اسم "المجموعة ۳٩ قتال"، الاسم الذي اختاره لها بنفسه، كما اختار شعارها "رأس النمر" بنفسه .. ووداع مؤقت بينه ومجموعته وبين زيهم العسكري ورتبهم، وتقمص شخصية الفدائيين المدنيين من الآن فصاعدا، ولأجل لا يعلمه إلا الله .. الرئيس يوصيه باستمرار القتال الضاري ضد الصهاينة، ويوصيه بمعنويات مجموعته، واستمرار عزيمتهم العالية في القتال.
خطر له خاطر أفزعه فحاول أن يطرده من رأسه بسرعة .. خطر له أنه لن يرى الرئيس بعد اليوم، وأنه وهو يصافحه ويوصيه كانت كأنها .. الوصية الأخيرة!!
طرد الفكرة بسرعة من رأسه .. الرئيس مازال في عز عنفوانه ولياقته، في الثانية والخمسين من عمره. هو فقط يوصيه لأنه يُولي المجموعة ۳٩ قتال عناية خاصة، ويراها سيفه في معركة الكرامة، مواقفه السابقة معهم كلها تقول ذلك.
لن ينسى يوم أصيب النقيب البطل "محيي نوح" في عملية "لسان التمساح" الأولى، فصحبه طبيب المجموعة ومقاتلها الشرس الرائد طبيب "عالي نصر" إلى مستشفى المعادي العسكري. يومها كان اللواء "صادق" ينتظر الطائرة التي أقلتهما أمام مهبطها، وفي المساء جاء الرئيس "عبد الناصر" شخصيا مع الفريق "فوزي" للمستشفى، وزار البطل "محيي نوح" واستمع لكل تفاصيل العمليات منه، وأوصاه بوصايا مشابهة في التعامل مع العدو بضراوة .. لا داعي للقلق إذا!!
كذلك كانت وصية الرئيس له هو شخصيا، ولبطل المجموعة وشاعرها "أحمد رجائي عطية"، عندما قلدهما مع الملازم "عبد الحميد السباعي" والعريف "سمير نوح" وبقية الأبطال نوط الشجاعة العسكري من الطبقة الأولى عام ۱٩٦٨م، ثم للنقيب "محيي نوح" عندما قلده نفس النوط في العام التالي، وكذلك كانت وصية الرئيس حين هاتفه ليعزيه ويوصيه بالثأر بعد استشهاد الرائد البطل "عصام الدالي" والمقاتل الأسطوري "عامر يحيى عامر" في عملية سقالة الكرنتينة في أغسطس ۱٩٦٩م، كانت نفس الوصية دائما: الاستبسال، والحفاظ على روح المجموعة التي صنعت المعجزات.
تذكر البطلين الشهيدين "عصام الدالي" و"عامر يحيى" رحمهما الله، فرفع كفيه يقرأ الفاتحة متمتما. استدعى بعقله صورة الشهيد "عصام الدالي"، وهو يقول بصوت هامس:
- رحمة الله عليك يا "عصام" كنت رجلا بألف.
ولم يكن ما قاله "الرفاعي" مبالغة، فالدالي هو بطل عملية قصف إيلات الأولى التي قام بها منفردا في ربيع عام ۱٩٦٩م، حيث كانت متزامنة مع عملية لسان التمساح الأولى، ورجح اللواء "صادق" القيام بها وتأجيل عملية لسان التمساح، حيث كانت ظروف التنسيق مع الجانب الأردني والفلسطيني مواتية وقد لا تتكرر. غير أن "الرفاعي" أجابه قائلا:
- أنا مجرد فرد من مجموعة الأشباح يا افندم. وممكن العمليتين يتنفذوا. وعندي اللي يسافر الأردن وينفذ القصف الصاروخي لمينا إيلات ويرفع راسنا كلنا. وأنا هنا هشرف على تنفيذ عملية لسان التمساح بنفسي.
وبالفعل سافر "عصام الدالي" للأردن بجواز سفر مدني استخرجته له المخابرات العامة. وهناك التقى بالمقدم "الدخاخني" وبعض عناصر منظمة فتح من المصريين والفلسطينيين للتنسيق للعملية. ومن منطقة الجبال المحيطة بميناء العقبة قبالة ميناء إيلات. تم تنفيذ العملية، حيث نصب الشهيد ۳۳ على إحدة المرتفعات، وأحكم توجيهها للميناء الحربي. وبدأ وابل النيران. كانت فرحته في الصباح التالي وفرحة "الرفاعي" في مصر غامرة، عندما نشرت الصحف الصهيونية خسائر جيش الدفاع، والتي بلغت ۹٤ قتيلا ومئات الجرحى!
ولم تكن بطولته يوم قدم روحه لمصر أقل روعة. تذكر "الرفاعي" يوم الكرنتينة. تلك المنطقة الواقعة أمام السويس على الجانب الشرقي للقناة، والتي كان مرساها على خليج السويس هو نقطة الحجر الصحي لوفود الحجيج العائدة من الحجاز. ومن هذا اكتسبت اسمها.
كان هدف العملية هو تدمير مرسى السفن الذي صار تحت سيطرة الإسرائيلي، وسقالته الممتدة داخل مياه الخليج، والتعامل مع قوات الحراسة المتمركزة بالقرب منه وقوامها سريتي مدفعية ميدان من عيار ۱٥٥مل، وفصيلة دبابات. وفي يوم ٦ أغسطس عبرت خمس زوراق زودياك، كان "الرفاعي" مع الرائد "عالي نصر" على أولها، وعلى الثاني "عصام الدالي" و"وسام حفاظ"، وعلى الثالث "إسلام توفيق" والنقيب "حنفي محمود"، وكل زورق به عدد من أفراد المجموعة، ومجهز بالمتفجرات والعبوات الناسفة اللازمة للعملية. لم تمض نصف الساعة حتى كانت المجموعة قد انتهت من تلغيم المرسى والسقالة وقوائمها بكمية كافية من المتفجرات، طلب "الرفاعي" من المجموعة الابتعاد بالزوارق لعرض الخليج، وبقي هو قريبا من الشاطيء في زورقه ومعه "عالي نصر"، بعد أن سحب بيده أمان المفجر. بقيا ينتظران واللحظات تمر ثقيلة دون أن يشاهدا بداية الانفجار!
كان العميد "مصطفى كمال" على الضفة الغربية يراقب الموقف كله، وفجأة انبعث صوته منبها "الرفاعي" لاقتراب ثلاثة مدرعات للعدو من شاطيء القناة باتجاه الزوارق، ويطلب منه العودة. لكن زورقي "الرفاعي" و"الدالي" تحركا في الاتجاه المعاكس لاتجاه العودة فورا .. نحو الضفة الشرقية.
وقف "الرفاعي" بزورقه بجوار السقالة وقام بإشعال فتيل العبوة الأولى يدويا، قبل أن يستدير الرائد "عالي" بدفة الزورق مسرعا ليبتعد عن موقع الانفجار! وبدأت النار تنهمر من المدرعات الإسرائيلية على زوارق المجموعة، قبل أن يدوي الانفجار الكبير ويتحول المرسى والسقالة البحرية لكتلة نار. في ضوء الانفجار رأى "الرفاعي" زورق "عصام الدالي" وقذيفة دبابة تصيبه، فتقتل "عصام" فورا بإصابة بالغة في عنقه، وتفجر رأس الشهيد "عامر يحيى عامر"، ولا ينجو من الزورق غير البطل "وسام حافظ".
تذكر "الرفاعي" كيف خسر "الدالي" مباراة الشطرنج للمرة الأولى يومها، فقد كان طوال اليوم السابق على شهادته في حالة حالمة تشبه حالة العاشقين!
المكان: مقر المخابرات الحربية بالإسماعيلية
الراوي : إياد حرفوش
كانت رحلة ذهنية طويلة مع ذكريات النضال واستشهاد الأبطال. فرك "الرفاعي" كفيه وهو في مقعد السيارة الخلفي، وهو يترحم على روح زميليه. وسأل نفسه: لماذا يستدعي عقلي كل هذا الآن؟
لم يجد تفسيرا سوى أنه يحاول أن يغطي بتلك الأفكار على انقباض قلبه عندما عنت له فكرة اللقاء الأخير مع الرئيس. لكن قلبه لم يهدأ إلا عندما عرض له تفسير آخر للفكرة: لماذا لا يكون اللقاء الأخير لأنه هو – إبراهيم - من سيلقى ربه في إحدى العمليات القادمة وليس "ناصر"؟ كانت فكرة شهادته حاضرة دائما في ذهنه، حتى أنه اتفق مع رفاقه على تسلسل القيادة في المجموعة بعده في حالة استشهاده.
المجموعة .. مجموعة الأشباح .. المجموعة ۳٩ قتال، ياله من اسم عزيز سيفارقه! فبوقف إطلاق النار في أغسطس المقبل، وبداية العمل تحت ستار منظمة سيناء العربية، تكون عملية مطار الطور في ۲ مايو الماضي، هي آخر عمليات المجموعة باسمها الأصلي. في ذلك اليوم، انطلقت قوارب المجموعة - وهم بملابس الضفادع البشرية - من منطقة الزعفرانة باتجاه مطار الطور، حتى وصلوا لشاطيء الطور مع آخر ضوء، واستخدموا مركبا جانحا (شاحط بتعبير البحرية) كساتر لهم، ونصبوا قواذفهم وبدأوا في ضرب المطار وممراته، واصطياد أفراد العدو ومركباته بالرصاص والقذائف. وفي غضون الثلاثين دقيقة كان المطار قد تحول إلى كتلة لهب، وقضي على قوته بالكامل.
تنبه من ذكرياته وأفكاره بعد هذا اليوم الحافل على صوت سائق القائد العام، وهو يتأكد لو كان في الاتجاه الصحيح نحو منزله. ولم تمض لحظات حتى كان يصعد السلالم قفزا كعادته.
لماذا شعر بحنين كبير لولده "سامح" اليوم تحديدا؟ هل أثارت مقابلته مع بطله الشخصي، ووالده الروحي في النضال، شوقه لبطله الصغير الذي يعده ويربيه؟! هل اشتاق أن يرى امتداده الشخصي الذي كان يعده ويربيه في قلب "سامح"؟ ولده الذي سماه باسم شقيقه الشهيد في حرب اليمن، وكان يرى فيه صورته. تمنى أن يكون "سامح" ضابطا في جيش مصر يكمل خدمة والده وعمه يوما، لهذا كان يخاطبه كما يخاطب أحد رجاله.
عندما وصل "الرفاعي" لمنزله، وجد "سامح" مستيقظا. رفع ولده بيديه وقبله وهو يقول:
- لسة صاحي يا وَحْش؟
- أيوة يا بابا .. مستنيك.
- وأخبار تدريبات الرماية إيه؟
- جبت تلات طلقات جوة النجمة، والباقي برا
- لا، مينفعش يا حضرة الملازم. بكرة بعد الغدا نتدرب مع بعض شوية، دلوقت يادوب تتعشى وتنام.
كان قد أعد لسامح لوحة تصويب، رسم عليها علم الكيان الصهيوني، وكانت نجمة داود هي الهدف وعلامة التصويب لبندقية سامح بطلقاتها البلاستيكية، وكان يدربه لفظيا - كما هو متبع في القوات المسلحة حتى الآن - خلال التدريب بسؤال "عدوك مين؟" فيجيب الطفل "إسرائيل".
كان الأمر أبعد بالنسبة له من لعبة طفل، أو تدريب نمطي، كان يقول:
- هم يعدون أولادهم لقتالنا، ويحقنون أطفالهم بكراهيتنا. السلام جميل، ولكن أن تربي ولدك على أناشيد السلام، بينما عدوك يربي ولده على مارشات الحرب، فأنت بهذا تعد ولدك للذبح بيد عدوه. السلام يحتاج لطرفين يؤمنان به. أما السلام من طرف واحد، فهو كالحب من طرف واحد، يهدر كرامتك ومستقبلك.
في اليوم التالي تمت كل الترتيبات في اجتماعه مع اللواء "صادق" والفريق "فوزي". أعدوا معا البيان الذي سوف ترسله "منظمة سيناء العربية" لوكالة أنباء الشرق الأوسط بعد سريان وقف إطلاق النار، وتعلن فيه رفضها لوقف إطلاق النار قبل تحرير الأرض المحتلة، وشمل البيان نقدا لقرار مصر بقبول هدنة الشهور الثلاثة، بهدف التمويه على هوية المنظمة. وهذا التمويه أمر تكرر حتى قبل وقف إطلاق النار، عندما أعلنت منظمة "فتح" الفلسطينية مسئوليتها عن عملية "جبل مريم" بعد أسر الجندي.
بعد الاجتماع، انطلق الرفاعي ليلتقي برجاله في مقر المخابرات الحربية في الاسماعيلية، لإطلاعهم على التطورات الجديدة، وخطة التعامل معها. لم تكن المهمة سهلة، أن تقنعهم بوداع زي الشرف العسكري، وبوداع الاسم الذي عملوا تحته لسنوات. لكنها كانت ممكنة بفضل ثقتهم الكاملة في شخصه، فكان واثقا أنها لن تؤثر في عزمهم، طالما لن يكونوا مضطرين لأن يودعوا سلاحهم. وهو ما كان فعلا.
دخل "الرفاعي" إلى غرفة المكتب الداخلية، حيث كان الضباط ينتظرونه، بعد أن اتصل بهم يخبرهم بالإجتماع العاجل. بعد تبادل التحيات مباشرة ألقى القائد قنبلته وسطهم! لقد اختار أن يقدم لهم الأمر بتكتيك الصدمة، فقال وهو يجلس ويشير لهم ليجلسوا:
- النهاردة آخر لقاء لينا هنا يا جماعة، وعملية مطار الطور هي آخر عمليات المجموعة ۳۹ قتال، وحتى إشعار آخر.
نظر في وجوههم يطالع نظرات الدهشة والترقب! فاستأنف قائلا:
- الريس "عبد الناصر" خد القرار بقبول مبادرة وقف إطلاق النار. والقرار هيعلن بكرة في احتفال عيد الثورة.
انقلبت الدهشة إلى صدمة كبيرة ألجمت الألسنة، ودارت لها العيون في المحاجر. وبدا أسود المعارك وكأنهم تصدعوا من الخبر كما تتصدع الجبال. لم يتركهم على هذه الحال أكثر من دقيقة واحدة قبل أن، تتحول ملامحه وتعلو وجهه الابتسامة وهو يقول:
- إيه؟ مالكم؟ اللي عاوز يحارب هيحارب! بس المرة دي من غير أوفرول ولا رتبة ولا شارة. يعني هنشتغل كمدنيين يا رجالة، زي أيام بورسعيد.
سرعان ما عادوا للترقب من جديد، وهم يتابعون خطة القيادة التي وضعتها حتى يتمكنوا من الاستمرار في ظل وقف إطلاق النار، تحت اسم منظمة تحرير سيناء. وبدأوا في استعراض كافة التفاصيل.
لم يكن الرجال يعرفون خلال إعدادهم لخطة القتال في فترة سريان وقف إطلاق النار، أن القدر يعد لهم مفاجأة جديدة .. ومن عيار ثقيل .. وكئيب!
المكان: المقر السري لمنظمة سيناء العربية في فيلا معزولة بالإسماعيلية.
الراوي : إياد حرفوش
كان الصمت يسيطر على المكان تماما، فيما عدا صوت الجماهير الهادر المحزون، الصادر من الراديو، كأنه نواح شعب:
الوداع يا جمال .. يا حـــبيب الملايين
الوداع
ثورتك ثورة كفاح .. عشتها طول السنين
الوداع
إنت عايش في قلوبنا .. يا جمـال الملايين
الوداع
إنت ثورة إنت جمرة .. لاجل كل الشقيانين
الوداع
وصل "الرفاعي" في سيارته الخاصة لفناء الفيلا بأشجاره اليابسة في الخريف، كان يرتدي ملابسا مدنية، غلب عليها اللون الرمادي، وحذاءا رياضيا خفيفا. توقف للحظة على السلالم الخارجية للفيلا عندما تناهى إليه صوت الجنازة من الراديو، كان مشهد غيوم الخريف، وأوراق الشجر الصفراء على أرض الفناء، يكمل الصورة القاتمة ليوم حزين.
وقف للحظات، مغمض العينين، ثم استمر صاعدا، بملامح متجهمة، وعيون غائمة، لا تخطئها أي عين عرفته من قبل.
كان معظم من استمروا في المجموعة بعد تغيير هويتها لتصبح "منظمة سيناء العربية" موجودين في الغرفة، عدا من عاد لوحدته منهم بعد انتهاء المجموعة ۳٩ قتال: الدكتور "محمد عالي نصر"، الرائد "رجائي عطية"، الرائد "وسام عباس"، النقيب "محيي نوح"، الملازمون "رفعت الزعتراني" و"مجدي عبد الحميد" و"محسن طه"، ومعهم من ضباط الصف "عبد المنعم غلوش" و"سمير نوح" و"علي أبو الحسن"، ومن الفدائيين المدنيين كان هناك "ميمي سرحان" و"إبراهيم سليمان". كان الجميع في الغرفة، موزعين على المقاعد، وفوق المكتب الوحيد في الغرفة، أو على الأرض، الجميع منصتون لصوت الجماهير المنبعث من جهاز الراديو. كان البعض لا يملك دموعه من لوعة الحزن على وفاة القائد. والبعض يدخن بشراهة وهو يستمع للصوت الشجي، وكان الكل حزينا، ذلك الحزن العميق الذي يُغيِّب عن العين رؤية الشمس، ويلغي أي تصور للغد.
وفجأة .. فتح الباب ليدخل للغرفة العقيد "إبراهيم الرفاعي"، ينظر إليهم لحظة ثم يصيح فيهم بصوت قوي:
- انتباه .. الكل انتباه.
يستجيب العسكريون فورا، والعجب بداخلهم، فما كانت تلك الطريقة الجافة مألوفة لهم من قائدهم إلا خلال تدريبات الصاعقة، لكن أن يدخل الحجرة، بدون تحية، ومعطيا أمرا بوقفة انتباه!! مع ذلك استجابوا فورا بسليقة العسكري. أما المدنيان الأقل خبرة بشخص "الرفاعي" فارتبكا للحظات ثم وقفوا عندما وجدوا العسكريين يستجيبون لحرفية الأمر.
وقف العقيد "الرفاعي" نفسه أمامهم وقفة انتباه، ضاما ساقيه، وذراعه اليمنى مضمومة لجنبه، غير أن يده اليسرى كانت تضغط على جدار بطنه، وهو يصيح فيهم بصوت هادر:
- الجماهير ممكن تحزن، وتبكي براحتها .. احنا معندناش رفاهية الدموع. احنا جنود في معركة، حماسنا يتحول نار على عدونا، فرحنا يتحول نار على عدونا .. كمان دموعنا .. لازم تتحول نار على عدونا، وعدو "عبدالناصر". ولما يموت مننا حد .. أي حد – حتى لو كان القائد الأعلى – نعمل إيه؟ كابتن"غزالي" بيقول نعمل إيه يا مقاتل "إبراهيم سليمان"؟
ارتبك الفدائي السويسي "إبراهيم سليمان" للحظة، لم تسعفه الذاكره في الموقف المتوتر بما يقصده القائد، فساعده "الرفاعي" موضحا السؤال:
- عضم إخواتنا ... ؟
تذكر "سليمان" على الفور أغنية الكابتن "غزالي" فردد كلماتها:
- عضم إخواتنا نلمه نلمه .. نلمه نسِنُه ..نسنه ونعمل منه مدافع .. وندافع .. ونجيب النصر لمصر.
- هو ده .. عضم "عبد الناصر" نلمـ ...
قطع "الرفاعي" عبارته عندما زاد الألم في معدته فجأة، وتقلص وجهه للحظة، وزادت يده ضغطا عليها. خيل لهم أنهم يرون لمعة في عينيه كأنها دموع يحتويها، ويرفض أن تغلبه وتفلت، لكنه استمر يقول:
- عضم "عبد الناصر" نلمه .. ونسنه .. ونعمل منه مدافع.. وندافع .. ونجيب النصر لمصر. هي دي وصية "جمال عبد الناصر" لي في آخر مرة شفته فيها، وآخر كلمة قالها لي كانت "عايزكم تاكلوا الصهاينة مش تدبحوهم بس"... عبد الناصر كان قائد، والقائد مبناش بنيان هش ينهار بموته. القائد أسس فكر وعقيدة نضال .. علشان كدة الصهاينة لازم يسمعوا صوت السلاح في سينا .. ويسمعوه الليلة دي.
قالها بصوت يفجر الصخور من قوته، فاهتزت قلوبهم لفكرة القتال في تلك الليلة، كانت فكرة عبقرية، من حيث المعنى والمضمون والأثر على قلوبهم المكلومة. استمر القائد يقول:
- علشان هم الليلة بيحتفلوا بموت "عبد الناصر"، ولازم ميتهنوش على الفرحة، واللي منا في عينه دمعة .. يخرجها طلقة من مدفعه .. الدموع على قائد زي "عبد الناصر" .. لازم تكون نيران.
هدأت نبرته قليلا وهو يسألهم:
- في حد عنده سؤال؟
- أيوة يا افندم، مين اللي هيمسك البلد دلوقت؟
هكذا سأله المساعد أول "علي أبو الحسن" فأجاب:
- مش مهم مين. فيه ريس هييجي، وهيكون هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
قالها "الرفاعي"، ثم خطف كلاشينكوف كان على المكتب، ورفعه بيمناه وهو يقول:
- وإحنا هنكون وراه .. طول ما هو رافع السلاح .. طول ما هو رافع السلاح.
سأله الدكتور "عالي نصر" عن الإشاعات التي تدور حول سبب الوفاة، وهل هو القلب حقا؟ فأجابه "الرفاعي":
- مش مهم. "عبد الناصر" مكانش له غير عدو واحد، والعدو ده قدامكم على الضفة الشرقية. سواء كان القتل بالإرهاق أو بالسم، وسواء كان الدراع اللي نفذ مصري أو عربي أو أجنبي، القاتل هو ده .. وهو ده اللي لازم يدفع التمن. لازم ندفعه التمن بالدم.
قالها وهو يشير نحو القناة بيده، ثم انتصب أمامهم من جديد ثابتا، وهتف فيهم:
- نقولها مع بعض تاني يا رجالة: عضم "عبد الناصر" ..
- نلمه نلمه .. نلمه نسنه .. نسنه ونعمل منه مدافع.. وندافع .. ونجيب النصر لمصر.
هكذا هتف الجميع بصوت هادر، وقد انتقلت إليهم روح قائدهم، وتحول الحزن إلى نار في مراجل الصدور، تريد أن تنطلق. فأصدر القائد أمره وهو يرى الحماس وقد عاد لعيونهم:
- الكل على عربيات الجيب لأرض التدريب .. الليلة هنهاجم طريق دوريات للعدو في سينا.
قالها وهو يستدير تاركا الغرفة ليسبقهم للجيب، بينما قرحة معدته تشتعل.
كان يريد أن يحول نيران قلبه وقلوبهم لنار تحرق عدوه، كان يريد أن تكون الليلة مصداقا لوصية "عبد الناصر". وقد كانت. واستمرت نيرانا تشتعل في سيناء طوال ثلاث سنوات من وقف إطلاق النار الرسمي ... حتى حانت المواجهة الكبرى.
المكان: المقر المؤقت للجنة آجرانات البرلمانية، المسئولة عن التحقيقات في تقصير جيش الدفاع في حرب يوم كيبور، تل أبيب
الراوي : إياد حرفوش
بعد مناقشة كثير من التفاصيل، وجد "جونين" أخيرا مناسبة للهجوم المضاد الذي أعده، فألقى على الطاولة بمظروف عليه شارة مستشفى "شيبا" العسكري، وهو يقول:
حسن جدا يا سادة. لو كنتم قررتم توجيه اللوم كله لي، فلا بأس، هذا شأنكم. لو كنتم قررتم حماية "موشي ديان" - والذي كانت أفضل ردود فعله عندما حدث الهجوم، هو اقتراح الانسحاب لممر متلا في سيناء، والانسحاب من الجولان نهائيا، لولا أن منعته "مائير" - فهذا شأنكم أيضا. لكن يبقى من العار أن يحمل"جونين" بكل هذا، بينما أنتم تتركون جنرالا هرب من المعركة بحجة المرض!! خاصة أن الكل في إسرائيل اليوم يتحدث عن هذا الجنرال، ويمجده. عار عليكم يا سادة أن تحدثوا أولادكم عن بطولة جنرال ادعى المرض، وفر من المعركة، عندما هاجمته الصاعقة المصرية في الدفرسوار.
الأوراق أمامكم هي التقرير الطبي الذي حصل عليه "آريل شارون" يوم ۱٧ أكتوبر، حين ترك الدفرسوار بالطائرة الهليكوبتر بحجة مغص كلوي ألم به، ثم رفض الذهاب لأقرب مستشفى ميداني، وأصر على الذهاب إلى مستشفى "شيبا" البعيدة جدا، ليستهلك علاجه يوما كاملا. فماذا يقول التقرير يا سادة؟
لا شيء .. لا شيء. التقرير يقول نصا "آلام في الجانب الأيمن بغير سبب طبي واضح". فلو جمعنا هذا التقرير، مع النواح والصراخ الذي سجله "شارون" بصوته على جهاز الإشارة يطلب إمدادات سريعة لقوات الثغرة، قبل أن يغادر الدفرسوار بالهليكوبتر، يمكنكم لو فعلتم هذا فهم كل شيء، وكيف تدار الأمور في جيشكم الذي لا يقهر.
في اليوم التالي،حضر "آريل شارون" جلسة الاستماع مع لجنة "آجرانات"، ورفض التعليق على ادعاءات الجنرال "جونين"، واكتفى بقوله أن عليهم ألا يستمعوا لجنرال فشل في المهام المسندة إليه، وأن "جونين" أصبح موتورا بعد إبعاده. كان "شارون" هادئا ومقنعا بدرجة كبيرة أمام اللجنة، لكن الأمر كان مختلفا في منزله!!!
عاد "شارون" لمنزله مباشرة بعد التحقيق. كانت زوجته "ليلي" في انتظاره، وأعصابها في حالة انفلات. كانت قد عرفت بما قاله "جونين" في اليوم السابق، ولسابق معرفتها بحجة "المغص الكلوي" التي يستخدمها "شارون" كثيرا، لم تجد كلام "جونين" غريبا أو مستبعدا، رغم أنها لم تتصور أبدا أن يستخدم زوجها هذه الحيلة للهروب من المعركة. كانت تحتمل الكثير من طباعه المستفزة لسبب واحد: شعورها بأنها زوجة بطل إسرائيل الشجاع، والذي انتشرت أخبار بطولته كثيرا، بعد مبادرته وقيادته للعملية "غزالة" المعروفة عند المصريين بثغرة الدفرسوار، بينما كان الجنرال الأشهر "ديان" قد فقد أعصابه، وفقد القدرة على رد الفعل. كانت تعرف أن زوجها يستخدم حيلة المرض كثيرا للهروب من مناسبات اجتماعية، أو حتى من التزام معها هي شخصيا، لكن الهروب من المعركة أمر آخر.
لهذا كان استقبال "ليلي" له شديد الجفاء، عندما دخل عليها غرفة النوم ليبدل ملابسه، لم ترد حتى على التحية التي ألقاها، وكانت تتأمل ملامحه بتحفز، قبل أن تسأل:
كيف جرت الأمور اليوم في آجرانات؟
جيدة جدا بالطبع.
وموضوع المغص الكلوي والهروب من الميدان؟
استدار نحوها بجسده البدين، وهو ينظر لها بدهشة من معرفتها بالأمر، بينما قالت هي موضحة:
أنا لم أصبح فنانة فقط كما تتصور، مازالت لي علاقات في استخبارات جيش الدفاع، على الأقل بما يكفي لأعرف عندما يتعرض اسم زوجي لفضيحة كهذه.
أي فضيحة؟ لولا خطتي ومبادرتي في الحرب لكان يوم كيبور يوم قصم الظهر لإسرائيل كلها!! هذا تجديف من جبان موتور مثل "جونين". لقد أصبت يومها بمغص كلوي فعلا من فرط الإرهاق.
"مناور كعادته! يستحق بالفعل لقب "الأفعى" الذي أطلقوه عليه في جيش الدفاع".
هكذا حدثت نفسها. تعرف يقينا ألا فائدة من مواجهته، لهذا فضلت أن تلقي ما في جعبتها دفعةواحدة:
آريل .. عندما تزوجتك منذ عشر سنوات، كنت سعيدة بزواجي من بطل إسرائيل. لم أقبل الزواج بك بعد ترملك، ووفاة "مارجريل"، بسبب وسامتك أو فحولتك، أنت تعرف هذا قطعا. ولا بسبب مركزك العسكري، فأنت تعرف أيضا أن هذه ليست شخصيتي. تزوجتك لأنني حسبتك بطلا. لجنة "آجرانات" ليس لديها دليل ضدك، وقرينة الإشارة التي ولولت فيها مستغيثا، ثم طيرانك بعدها مباشرة، هي مجرد قرائن لا تكفيهم. أما أنا، ولأنني أعرفك جيدا، فهي تكفيني جدا. ويكفيني كذلك أن أقول لك عبارة واحدة: ضباطك الذين كانوا معك في الثغرة وتركتهم يواجهون نيران الصاعقة المصرية وحدهم وهربت، صاروا يتحدثون طوال الوقت عن المقارنة الفاضحة بينك وبين الكولونيل الذي قتل بين رجاله. يسمونه "مروض الأفعى" بمعنى اسمه العربي. ويتغامزون عليك وهم يقولون: مروض الأفاعي علم الأفعى كيف تطير.
قالتها وهي تترك له الغرفة وتصفق الباب خلفها بعنف. أما "شارون" فقد استدعى كل تفاصيل اليوم في ذاكرته، وأول ما فكر فيه: أن هذا الرجل .. "رفاعي" .. مازال قادرا على أن يسبب له المشاكل حتى وهو في قبره!
المكان: الإسماعيلية غرب قناة السويس
الراوي : إياد حرفوش
بالنسبة لهم، بدأت المعركة في يوم ٥ أكتوبر ۱٩٧۳م، حين عادوا لزي الشرف العسكري من جديد، وعادت لهم رتبهم، وأنواطهم، ونياشينهم العسكرية؛ فوقف إطلاق النار سوف تكسره مصر وسوريا ظهر اليوم التالي. وقد صدرت لهم عدة مهام فدائية للقيام بها في سيناء، وهم بالزي العسكري وبصفتهم الأصلية. كانت في معظمها مهاما استطلاعية، للتأكيد على عدم وجود أي تحركات للعدو، وتأكيد إحداثيات بنك الأهداف الذي ستوجه له الضربة الجوية المصرية. وقد قاموا بتلك المهمة التي سبقت العبور مباشرة بكفاءة كاملة، كفاءة من عرف صحراء سيناء عن ظهر قلب عبر ست سنوات من حرب العصابات بين دروبها.
أما تكليفهم لليوم التالي، يوم السادس من أكتوبر، فكان إشعال النيران في آبار بترول بلاعيم شرق القناة، بعد أن تسقطهم ناقلات الجنود هناك، وقبل أن تبدأ موجة العبور الأولى، بأربعة آلاف جندي من المشاة في زوراق الزودياك المعدلة.
في الساعة الثانية عشرة ظهرا من يوم السادس من أكتوبر، وعند نقطة التجمع على الضفة الغربية، أقبل "الرفاعي" على رجاله الذين كانوا بزيهم العسكري، ورتبهم، وبشدة الميدان الكاملة، وبالقرب منهم تربض ثلاث طائرات هليكوبتر، في انتظارهم لتنقلهم للضفة الشرقية. طلب منهم التخفف من بعض العناصر التي قد تثقل حركتهم في شدة الميدان، وفتح الخريطة الميدانية ليوزع عليهم مهام إشعال النيران في آبار البترول، بعد أن قسمهم لخمس مجموعات.
وجاءت اللحظة. ارتجت أرض سيناء بأصوات الطائرات المصرية، وهي تضرب الأهداف التي أكدوا إحداثياتها بالأمس؛ ويقسم كل من رأى وجه العقيد "إبراهيم الرفاعي" في هذه اللحظة، أنه كان يستمع لصوت القنابل كأنه شدو البلابل، كان مبتسما ومبتهجا كما لم يكن من قبل.
عندما تأكد من استعداد المجموعة، أشار بيده علامة الاستعداد للطيارين، وبدأت المجموعة تقفز للطيارات الثلاثة، وهم في حالة من النشوة، كأنهم طلاب يقفزون لأتوبيس الرحلة، وليسوا أبطالا سيواجهون الموت بعد دقائق. بعد أقل من نصف الساعة كانت المجموعات الخمسة كما قسمها "الرفاعي" مشتبكة مع العدو، وقبل الزمن المحدد لإنهاء العملية كانت آبار بلاعيم تشتعل نارا تصل لعنان السماء.
في غضون الأيام من ٧ أكتوبر وحتى ۱٤ أكتوبر،كانت المجموعة ۳٩ قتال - التي عادت لصفتها العسكرية من جديد - في كل مكان في سيناء، تقاتل قوات العدو عند راس محمد، وشرم الشيخ، تهاجم طائراته الرابضة على الأرض في مطار الطور عدة مرات. وعندما عادوا من آخر مهمة لتدمير الطائرات في مرابضها، قال "الرفاعي" لمجموعته "إنه يوم بيوم يونيو"، فقد دمروا طائرات العدو الرابضة في المطار، كما حدث للطائرات المصرية في نكسة يونيو.
كانت المجموعة تقاتل في ملحمة رائعة من البطولة والحرفية لا تقل عن ملحمة الاستنزاف .. حتى جاء فجر يوم الثاني عشر من أكتوبر. حين وصلت تعليمات القيادة للواء "سعد مأمون" قائد الجيش الثاني، واللواء "عبد المنعم واصل" قائد الجيش الثالث، بتطوير الهجوم شرقا نحو مضايق سيناء. لتخفيف الضغط على الجبهة السورية. وبدأ تطوير الهجوم بالفعل مع أول ضوء ليوم ۱٤ أكتوبر.
بدأ تطوير الهجوم بتحرك الجيش الثالث شرقا، وتم سحب فرقتين مدرعتين - هما الفرقة الرابعة والفرقة الحادية والعشرين - من خلفية الجيش الثاني الميداني، وكانت مهمتهما الأساسية هي تأمين خلفية وخطوط إمداد الجيشين، وتغطية الثغرات التي تظهر في الحروب نتيجة لزحف الجيوش، والتي يمكن رصدها من خلال الطيران المرتفع، وهو ما حدث بالفعل!!
مع رصد الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث من خلال طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، وضع "آريل شارون" خطة سريعة هي الخطة "غزالة"، واقتحم بقواته الثغرة، مستوليا على أحد رؤوس الكباري المقابلة للإسماعيلية، وعبرت قواته لغرب القناة، ودمرت بطاريات الصواريخ سام-۲ وسام-۳، والتي توفر حماية للقوات شرق القناة، وحدثت ظروف معقدة في القيادة المصرية، فتأخر قرار تصفية الثغرة، وزاد عددها غرب القناة لتصبح خمسة ألوية مدرعة، ولواء مشاه ميكانيكية، ولواء قوات خاصة. وبهذا .. أصبح الجيش الثالث محاصرا.
وزاد الخلاف الشهير بين الرئيس "السادات" بوصفه القائد الأعلى، وبين الفريق "سعد الدين الشاذلي" رئيس الأركان، والذي بدأ قبل اليوم مع قرار تطوير الهجوم، وزاد عندما اختلفا في كيفية التعامل مع الثغرة. كان الفريق معنيا بجانب العمليات، لهذا كان مصرا على سحب ألوية مدرعة من شرق القناة لتصفية الثغرة،خاصة أن تطوير الهجوم نحو المضايق – خارج مظلة الدفاع الجوي – قد فشل، ولم يعد هناك داع عسكري لتكديس القوات شرق القناة. وكان الرئيس يرفض باستمرار، حيث كان معنيا بالجانب المعنوي للقوات المقاتلة، وبعقدة يونيو التي قد تطفو على السطح لو تم سحب قوات من شرق القناة لغربها.
كان العقيد "إبراهيم الرفاعي" يحترق انفعالا بداية من يوم ۱٤ أكتوبر، مع تطوير الهجوم وسحب الفرق المدرعة من خلفية الجيش الثاني، فهو ضابط أركان حرب مؤهل للتخطيط الاستراتيجي، ويعرف جيدا أن في الأمر خللا، لكنه أبدا لم يتحدث لأحد من ضباطه، حفاظا على روحهم المعنوية. حتى كان يوم ۱٧ أكتوبر، وجاءت الأوامر لمجموعته بالتحرك نحو الدفرسوار، والتسلل لقوات العدو في الثغرة، ونسف الكوبري الذي تعبر عليه قوات العدو من شرق القناة لغربها، عند الإسماعيلية.
دخل عليه الرائد طبيب "عالي نصر" في غرفته بمقر المخابرات الحربية في مدينة الإسماعيلية، بينما كانت المجموعة تستعد للتحرك نحو قوات الثغرة، وكان مع "نصر" ضابط الإشارة:
- فيه إشارة يا افندم .. أوامر جديدة بالتصدي لمدرعات العدو على طريق الإسماعيلية القاهرة.
عقد "الرفاعي" حاجبيه مفكرا، ثم نظر لضابط الإشارة وهو يقول:
- علم، اتفضل إنت.
انصرف ضابط الإشارة بينما كان الدكتور "عالي نصر" يتأمل في وجه "الرفاعي" المتجهم، محاولا أن يسبر رد فعله. ثم سأله قائلا:
- هنعمل إيه يا افندم؟
نظر له "الرفاعي" للحظات صامتا، ثم قام وهو يضبط مسدسه في قرابه ويقول:
- هننفذ الأوامر طبعا يا حضرة الرائد.
- هنواجه خمس ألوية مدرعة ونوقف تحركها، بمجموعة صاعقة يا افندم؟!!!
- هننفذ الأوامر يا "عالي". احنا مش في مجلس الأمة علشان نناقش!! احنا جنود.
- يا افندم حضرتك .. حضرتك العقيد "إبراهيم الرفاعي".
- و"الرفاعي" أول واحد ينفذ أوامر القيادة. خلص الكلام.
سكت "عالي" وهم بالخروج، ثم عاد ثانية، وهو يطلب من القائد أن يسمح له بالحديث خارج الإطار الرسمي، نظر له "الرفاعي" نظرة أبوية، ثم وقف أمامه ووضع يديه فوق أكتافه وهو يقول:
- يا "عالي"، أنا فاهمك كويس. بس إنت كمان لازم تفهم إن كلنا بشر، والحروب الكبيرة ممكن يكون فيها أخطاء كبيرة. مهما كان الخطأ في تطوير الهجوم، والخطأ في التعامل مع الثغرة، يفضل الخطأ الأكبر من ده كله، هو عدم تنفيذ الأوامر.
- يا افندم ... لكن ..
- عصيان الأوامر معناه انهيار الجيش كله يا "عالي". جهز نفسك، هنتحرك مع آخر ضوء.
وتحركت المجموعة بالفعل مع آخر ضوء، وبدأت الاشتباك الليلي مع قوات الثغرة من أطرافها. وبدأت قوات المجموعة في التقدم، وتصدت لتقدم مدرعات العدو يوم ۱٨ أكتوبر على طريق الإسماعيلية القاهرة، حيث دمرت ثلاث من دباباته، وأرغمت سريته على التقهقر. ورصدت المجموعة خلال الاشتباكات وجود بطارية صواريخ مصرية سام-۳، استولى عليها العدو، وقد أبيد طاقمها. فقرر الرفاعي التحرك نحوها، واستعادتها من قوات العدو مع أول ضوء من يوم ۱٩ أكتوبر.
قرر التحرك بنفسه مع سرية من ثلاثة أفراد، "مصطفى إبراهيم"، و"الصادق عويس"، و"شريف عبد العزيز". وبقي البطل ليلته ساهرا بانتظار الفجر.
أوليس الفجر بقريب؟
بعد منتصف الليل، جاء "شريف" ببعض البسكويت المالح، وزمزمية مياه للعقيد "الرفاعي" ليتناول سحوره، فقد كان يصر على الصيام بينما يأمر الجميع بالإفطار. كان القائد "الرفاعي" باسما مبتهجا، وقد زال عنه الهم الذي كان يفكر فيه منذ تطوير الهجوم. حتى أنه بعد أن فرغ من سحوره، ناول زمزمية المياه الفارغة للمقاتل "الصادق عويس"، أمهر رماة الآر بي جي في المجموعة، وكان يجيد فن الإيقاع، وطلب منه "الرفاعي" أن يدق عليها لحنا من ألحان السمسمية قائلا:
- دق لنا "يا بيوت السويس"
وبدأ "الرفاعي" يغني مع المجموعة بنفسه، مبتسما، وهو يصفق بيديه على الإيقاع:
يا بيوت السويس .. يا بيوت مدينتي
أستشــهد تحتك ... وتعيشي إنت
يا بيوت السويس .. يا بيوت السويس
وكلما همت المجموعة بالانتقال للمقطع التالي من الأغنية، وجدوه يكرر نفس المقطع. حتى تناهى إليهم صوت أذان الفجر من إحدى قرى الاسماعيلية القريبة، فقال:
- نصلي الفجر ونتوكل على الله يا رجالة.
توضأوا جميعا وصلى بهم إماما، كان صوته رخيما جليلا في قراءة الفجر، بدأ في الركعة الأولى من أول سورة الأحزاب حتى قوله تعالى "قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لّا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا"، وفي الركعة الثانية استمر في نفس السورة حتى قوله تعالى "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا". وأطال السجود في الركعة الثانية كثيرا، ولم تكن هذه عادته حين يصلي إماما!!
بعد الصلاة، اقترب منه الرائد "عالي"، يطلب الخروج معهم في المهمة، فأجابه "الرفاعي"باسما:
- أمال مين يسعفنا يا دكتور؟ تابعنا بنضارة الميدان، علشان لو حد في الشباب اتصاب.
لم يقل "لو حد فينا" كأنه كان يستثني نفسه من الإصابة.. أو ربما .. من قابلية الإسعاف!! رآه "عالي" وهو يخرج صور زوجته "نادية" وولديه "سامح" و"ليلى" من محفظته، وينظر لها باسما، ثم يقبلها قبل أن يعيدها لمحفظته! ارتجف قلب "عالي" في تلك اللحظة، وفكر أن يحاول إثناء القائد من جديد بينما كان "إبراهيم" يضع الخوذة فوق رأسه، لكن هيهات!! هو يعرف نتيجة تلك المحاولة مسبقا!
خرجت السرية، وبقي الرائد "عالي نصر" في مكانه حتى سمع صوت النيران يتصاعد بعد أقل من نصف ساعة. كان يعرف موقع بطارية الصواريخ التي تم رصدها في اليوم السابق، فرفع نظارة الميدان وصوب نظره نحوها ليرى مشهدا سوف يلازمه حتى نهاية العمر. مشهد الأسد واقفا!!
كان العقيد "إبراهيم الرفاعي" يعتلي سطح البطارية، على ارتفاع حوالي مترين عن الأرض، والآر بي جي على كتفه، ويطلق القذيفة تلو الأخرى على رتل الدبابات الذي يواجهه بمواسير المدافع مصوبة نحوه، وكان خلفه "مصطفى" يجهز له الذخيرة ويضعها في فوهة مدفعه بعد كل طلقة، بينما "صادق" يطلق القذائف من أسفل البطارية محتميا بها، ويحاول "صادق" كل حين أن يجذب "الرفاعي" لأسفل ليحتمي بجسم البطارية، بينما البطل يرفض بإشارات يده.
فهم العدو من نظارة الميدان واللاسلكي المعلقان في عنق "الرفاعي" أنه القائد، فصار تطاير الرصاص ودوي الانفجارات حوله كأنه وابل من السماء.
دق قلب "عالي" بقوة، كان يعرف أن "الرفاعي" خرج اليوم ليضع سطر النهاية في ملحمته ... وحدث ما توقعه.
انفجرت قذيفة على بعد مترين من موضع وقوف البطل، وعندما انقشع غبارها كان مازال واقفا، لكن يمناه التي كانت تحمل المدفع على كتفه قد تدلت الآن بجانبه، ومازالت كفه تقبض على المدفع المضاد للدبابات ... وكاد أن يسقط، لولا أن احتضنه "مصطفى" من خلفه، وحمله على كتفه فورا، ليجري به باتجاه نقطة الانتشار.
صرخ "نصر" في سيارة الجيب لتتجه نحو "مصطفى" فورا، وسقطت نظارة الميدان من يده عندما كان يطلب الهليكوبتر باللاسلكي، لتقوم بإخلاء العقيد فورا للمستشفى. لكنه عندما وصلت الجيب تحمل القائد الجريح، وجرى نحوها بلهفة رغم النيران التي تنفجر في كل مكان، ورفع جفن العقيد "الرفاعي" .. عرف أن كل شيء قد انتهى على الفور. لكنه لم يستطع الحديث. وطارت الهليكوبتر نحو مستشفى الجلاء.
طارت وهي تحمل الرجل الذي مات كالأشجار .. واقفا .. وعاليا! تحمل بطلا .. من زمن الحلم .
تعليقات
إرسال تعليق