مناظرة جمال عبد الناصر مع جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار

 

مناظرة جمال عبد الناصر مع أعظم فلاسفة فرنسا 

جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار 


سارتر وسيمون دى بفوار مبنى جريدة الاهرام


في يوم ​​ 9 مارس 1967 كان “جمال عبد الناصر” يستقبل زائرين هما الفيلسوف الفرنسي الشهير “جان بول سارتر” ومعه الكاتبة الفرنسية الكبيرة “سيمون دي بوفوار”.

 كان جمال عبد الناصر مهتما بلقاء “سارتر” و “دي بوفوا ​ر​
 ” وهما وقتها طليعة حركة التجدد الثوري في فرنسا وفى أوروبا فضلا عن أن “سارتر” كان مؤسس المدرسة الوجودية في الفلسفة وكانت “سيمون دي بوفوار” حليفه الضخم في معركة إعادة اكتشاف وتجديد حيوية المجتمعات الأوروبية في فترة منتصف الستينات وما حولها. 
وفى نفس الوقت كان “سارتر” و”دي بوفوار” متشوقين للقاء “جمال عبد الناصر” ويظنان أن لديهما الكثير يقولانه له ويسمعانه منه

وتسجل الصفحة الأولى من محضر الاجتماع
 ترحيب “جمال عبد النا​صر​” بالاثنين ثم قول “سارتر” انه رأى السد العالي وزار الأرض الجديدة المستزرعة على مياهه كما شاهد المجتمعات السكانية الجديدة التي تقدمت إلى الحياة بعد تراجع الصحراء. 
ثم أضاف انه لم يكن يعرف الكثير عن الثورة المصرية ، وما كان يعرفه كان أكثره –بصراحة– من مصادرإسرائيلية أو غربية قد تكون معادية لمصر. 
بل انه يستطيع أن يشهد بهذا العداء بعد أن رأى ما رأى في مصر. 
لكنه يرى من واجبه أن يثير إلى جانب هذا موضوعا أخر يتعلق بحقوق الإنسان فمنذ وصل إلى مصر تلقى في فندقه عددا من الخطابات يشكو له أصحابها من ضغط واقع عليهم. وبدأ “جمال عبد الناصر” يتحدث



وتسجل الصفحة الثانية من المحضر 
قوله لـ “سارتر”: “إنني في حاجة إلى أن اطلب من أجهزة الأمن أن يبحثوا لي عن مرسلي هذه الخطابات إليك فأنت وأنا نستطيع أن نتصور نوع الناس الذين يعرفون في مصر عنك وعن السيدة سيمون بالطبع إنهم الطبقة التي تقرأ الفرنسية أو تقرأ غيرها من اللغات الأجنبية وتتابع الأدب العالمي. وأنا لا ألومهم إذا وجدوا سببا لان يكتبوا إليك. 
أستطيع وتستطيع معي أن تقطع إنهم من كبار الملاك السابقين وقد حددنا ملكياتهم ولا أظنهم يحبون ذلك أو يقبلونه وهم لا يستطيعون وقف حركة الثورة. 
وبالتالي لا مانع عندهم من أن يشتكوا إلى كل من يتصورون انه قادر على سماع صوتهم وعلى إسماعه. 
فهذه هي الطبيعة الإنسانية وأنا افهمها ولكني في الوقت الذي أرى فيه دموع الأغنياء لابد أن أتذكر قهر الأغلبية التي كانت غريبة في وطنها لا تملك فيه شيئا ​”​

 وتسجل الصفحة الثالثة من المحضر 
قول “جمال عبد الناصر” لـ “سارتر” و”دي بوفوا​ر​
 “إن الناس بالطبيعة محافظون والملكية غريزة طبيعية في الإنسان فإذا أردت أن تقوم بتغيير في أوضاع الملكية فانك لا تصطدم فقط بالغريزة الطبيعية لدى الذين تمسهم إجراءاتك فحسب وإنما تصطدم بالغريزة الطبيعية لكثيرين ليسوا الآن من كبار الملاك لكنهم يحلمون أن يصبحوا كذلك في يوم من الأيام”

 وتسجل الصفحة الرابعة من محضر الاجتماع 
قول “جمال عبد الناصر” لـ “سارتر و”دي بوفوار”: 
إن مرحلة الانتقال من مجتمع تسيطر فيه القلة على مجتمع تتحقق فيه عدالة التوزيع عملية في منتهى الصعوبة ، كما أن مرحلة الانتقال هذه هي أخطر المراحل في حياة المجتمعات لان التنظيم القديم للمجتمع يكون قد تهاوى، وفى نفس الوقت لا يكون التنظيم الجديد لهذا المجتمع قد قام بعد”.
 
وتدخلت “سيمون دي بوفوار” في الحديث فسألت عن تعليم المرأة وتعدد الزوجات وتأثير الدين في حياة المجتمع ثم أضافت إلى هذه الكتلة من الأسئلة سؤالا أخر عن مشكلة زيادة عدد السكان.
 وتسجل الصفحة التاسعة من محضر الاجتماع 
عن “جمال عبد الناصر” وسارتر ودى بوفوار عند سفح الهرم قوله لـ “سيمون دي بوفوار”: “أنني لا أريدك أن تأخذي بمقولة أن الإسلام يمكن أن يكون عائقا للتطور فميزة الإسلام في رأيي انه دين مفتوح على كل العصور وكل مراحل التطور. وأنا دائما انقل عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله داعيا الناس للاجتهاد إزاء مستجدات العصور “انتم اعلم بشؤون دنياكم”
 وبالنسبة لتعدد الزوجات فانا لا ​أرى أن الإسلام يتركها رخصة مفتوحة وإنما هي رخصة مقيدة بشروط تجعل التعدد صعبا بل تكاد تجعله مستحيلا والدليل على ذلك ما نراه عمليا أمامنا ومؤداه أن ظاهرة تعدد الزوجات تتلاشى تدريجيا في المجتمع المصري.

 وأما عن تعليم المرأة ، وأنا اعتبره الأساس الحقيقي لحريتها فسوف اطلب من مكتبي أن يبعثوا إليك بإحصائيات عن عدد “البنات” في مراحل التعلم المختلفة، وكذلك في مجالات العمل في مجتمع المدارس والجامعات الآن أكثر من مليون فتاة وفى مجالات العمل المختلفة الآن حوالي 2 مليون سيدة تعمل. 
وفى رأيي أن هذه حركة التطور حية ومرئية وأنا اعرف أن بعض المشايخ قد يقفون على منابر مساجدهم ليقولوا كلاما أخر ولكن كلامهم في اعتقادي غير مؤثر لان ضرورات التطور أقوى من كل ما يقولون. 
أما بالنسبة للزيادة في عدد السكان فانا اعرف أنها مشكلة قائمة فهناك زيادة سنوية في عدد السكان تقدر بـ 800 ألف. وفى أول الثورة كان تعدادنا 22 مليونا واليوم نحن 31 مليونا”.

 وتدخل “سارتر” في المناقشة ليقول انه لابد من أن يوجد حل على مستوى الدولة لهذه المشكلة واستطرد “جمال عبد الناصر” مستكملا عرض رأيه قائلا: “تستطيع أن تقوم بحملات دعائية كما تشاء ونحن أقمنا لجانا لتنظيم الأسرة في كل المدن والقرى وفى رأيي أن الحل الحقيقي ليس في أي حملات دعائية الحل الحقيقي في زيادة الإنتاج عن طريق استصلاح الاراضى والتصنيع ،وكذلك فان التعليم في رأيي هو أهم عنصر لأنه يبدو لي من الإحصاءات أن أبناء المتعلمين اقل من أبناء غير المتعلمين. فالمتعلم ينظم حياته على أساس موارده وأماغير المتعلم فيترك المسائل للمصادفات”

 ومرة أخرى قاطعه “سارتر” قائلا: “إن واحدا من المحافظين قال لي أن المشكلة مشكلة كهرباء فعندما يتم استكمال مشروعكم لكهربة الريف يدخل التليفزيون على أوسع نطاق وسيكون من اثر هذا أن الناس سيجدون شيئا أخر يسليهم غير ممارسة إنجاب الأطفال”. ​
 ​
 ومضى “جمال عبد الناصر” يستكمل حديثه ضاحكا وقائلا لـ “سارتر”: “لكن المشكلة انه حتى إذا عممنا التليفزيون فان برامجه تنتهي في الساعة الحادية عشرة والنصف وبعدها فان الليل طويل.
 ولا يزال تقديري أن التعليم وزيادة الإنتاج تقدم أحسن وسائل للحل على سبيل المثال كان عندي عشر أخوات  واحد أصدقائي وهو الماريشال “عامر” كان عنده 13 أخا – ولكنني الآن عندي خمس أولاد 
وأتصور أن أيا من أبنائي سوف يجد من الصعب عليه أن يكون عنده أكثر من اثنين أو ثلاثة”

 وتسجل الصفحة 28 من محضر الاجتماع حوارا بين “جمال عبدالناصر” و”سارتر” جرى على النحو التالي:
 سارتر: “إن اليسار في أوروبا لايستطيع أن يفهم موقفكم من حل الحزب الشيوعي المصري. لقد سمعنا أن هذا الحزب قد حل نفسه بنفسه ولا نتصور أن حزبا شيوعيا يتخذ مثل هذا الإجراء إلا تحت الضغط “
 جمال عبد الناصر: ​ ​
 “أي يسار في أوروبا هذا الذي تتحدث عنه ؟ هل هو يسار الاشتراكيين في فرنسا الذين يقودهم جى موليه والذين رأيناهم متواطئين في العدوان علينا سنه 1956 مع الاستعمار البريطاني ومع “إسرائيل” ؟
 سارتر: “أنا لا اقصد موليه ولا اقصد الاشتراكيين الفرنسيين
 الاشتراكيون الفرنسيون ضيعوا كل اختياراتهم التاريخية وانتهى بالتحالف مع اليمين ولذلك فإنهم خانوا”. 
جمال عبد الناصر: ​ ​
 ” الحقيقة أنني أسائل نفسي كثيرا هذه الأيام عن معنى هذه التعبيرات التي نستعملها بما فيها تعبير “الاشتراكيين” ​
 هذه التعبيرات في رأيي تحتاج إلى صياغات جديدة وعلى أي حال فسأعود إلى سؤالك نحن لم نمارس أي ضغط على الحزب الشيوعي لكي يحل نفسه وأظن أن عناصر كثيرة في هذا الحزب اكتشفت بالتجربة أن قضايا التطور تحتاج إلى تفكير جديد. ​ ​
 هل أنت شيوعي؟”.
 سارتر: ​ ​
 “إنني ماركسي ولكني لا انتمى تنظيميا إلى حزب. 
جمال عبد الناصر: ​ ​
 “إنني مستعد أفهمك وأنا بالفعل افرق بين الماركسية والحزب الشيوعي ​ ​
 الماركسية فكر يطرح نفسه على الناس ويؤثر فيهم بقدرته على الحوار وإيجاد حلول لقضايا التطور والتقدم. وعندما تتحول الماركسية إلى حزب شيوعي فأنها تتحجر لأنها تدخل في قالب تنظيمي لا يسمح بالمراجعة والتجديد وإنما يوجه همه إلى التجميد والسعي للحصول على السلطة وبما أن الشيوعيين أقلية فإنهم يلجأون إلى العمل السري والى تنظيمات ما تحت الأرض شأنهم في ذلك شأن أقصى اليمين ​ ​
 . ​…​
 ومع ذلك فانا أريد أن أسألك لماذا تسألني عن الحزب الشيوعي وحده ؟ ​ ​
 إنني أفكر في تعددية من نوع جديد ولم اعثر على الصيغة الملائمة بعد. 
والحقيقة إنني أخشى من الحزبية فلو أبحنا الحزبية الآن وفى ظل الحرب الباردة التي تجرى على الساحة العالمية الآن لوجدتني على الفور أمام حزب شيوعي موال لروسيا وحزب رجعى موال للأمريكان وربما حزب ديني يؤدى قيامه إلى فتنه دينية في البلاد ولهذا فالقضية في رأيي اكبر من الحزب الشيوعي”.

 سارتر:
 “إنني لاحظت أن الرئيس وضع “إسرائيل” في نفس الصف مع الاستعمار البريطاني وقوى اليسار الفرنسية التي خانت رسالتها وهذا يعقد الأمور في الشرق الأوسط”.
 جمال عبد الناصر: 
“الذي يعقد الأمور ليس إنني أضعهم في هذا الصف أو ذلك ولكن الذي يعقدها فعلا هو “إسرائيل”. 
لا يمكن لأي جماعة من الناس أن ينقضوا على بلد ويأخذونه لأنفسهم ويحولوا سكانه الأصليين إلى مواطنين من الدرجة الثانية الذي يعقد الأمور هو ضياع الحقوق العربية في فلسطين. 
بعض الناس يتصورون أن هذا الجيل من الشعب الفلسطيني تعود على ضياع وطنه وانه يموت أو يكاد يموت. وينسون في هذا أن جيلا جديدا سوف يظهر, جيل لا يشعر بالضياع ولا يشعر بالمهانة وهذا الجيل سوف يقاوم ليحصل على حقوقه الإنسانية أولا ثم الوطنية وهكذا
 والشئ الثاني الذي يعقد الأمور في موضوع “إسرائيل” ليس تصنيفا لها 
وإنما علاقتها بالولايات المتحدة وهو موضوع يدفع المنطقة الآن إلى حافة الحرب فـ “إسرائيل” تريد التوسع وتريد أن تفرض هذا التوسع بالقوة وهذا معناه الحرب”
 سارتر: ​ ​
 “هناك مجموعات في ​”​إسرائيل” خصوصا من اليسار يتفهمون قضية الشعب الفلسطيني”.
 جمال عبد الناصر: 
“الموضوع ليس موضوع مشكلة تفهم وإنما الموضوع يتلخص في مشكلتين:المشكلة الأولى الهجرة لـ ​”​
 إسرائيل” ​.
 باستمرار الهجرة لن تتسع “إسرائيل” للقادمين إليها وستلجأ للتوسع وهذا يؤدى إلى الحرب والمشكلة الثانية انه إذا كان هناك من يتفهم مشكلة الشعب الفلسطيني كما تقول من عناصر اليسار الاسرائيلى فلا أظن أن لديهم ما هو أكثر من الألفاظ والتعاطف بها ببساطة لان أهم حقوق الفلسطيني هي حق العودة فإذا عادوا فسيصبحون أغلبية وعندئذ تذوب فكرة دولة “إسرائيل”.

 وتسجل صفحة 48 من محضر الاجتماع ردا لـ “جمال عبد الناصر” على سؤال وجهه إليه “سارتر” عن القضية التي تشغله الآن أكثر من غيرها وكان قوله: 
“العالم كله يحاول إخراج الشباب من السياسة ويحاولون الهاءهم بأنواع من الرقص الجديد ويحولون اهتمامهم إلى الرياضة وأنا أرى ذلك خطرا كبيرا ​ ​
 (*) القضية التي أتمنى لو استطعت أن أركز عليها هي أن يشعر الشباب أن السياسة هي عملية صنع مستقبله وان اهتمامه بها ومشاركته فيها هما اكبر ضمانات المستقبل. ما أراه في الاتحاد السوفيتي وما أراه في غيره يجعلني اقلق لان الأجيال القديمة تحجب أجيالا جديدة عن المشاركة وهذه مشكلة فإذا حجبنا الشباب عن العمل السياسي تتوقف حيوية الأنظمة ويزداد الاعتماد على عناصر القوة في المجتمع مثل الجيش مثلا. وهذه ليست وصفة مضمونة لحماية التطور”.


أشهر مناظرات وحوارات الثراء الفكرى بالستينات 

https://elshaksiamisr.blogspot.com/2024/03/blog-post_24.html


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بناء مصر ..جمهورية يوليو الثائرة (الجمهورية الأولى) .. تأسيس النهضة الصناعية من الابرة للصاروخ

خيانات حرب يونيو 1967

المخصيين بالتاريخ المصرى "حكاية حزينة من الماضي"